ارتبطت موريتانيا مع بعض الدول النافذة في حلف الأطلسي منذ الاستقلال، بالرغم من أنها - كغيرها من الدول الناشئة - والعديد من الدول التي صنفها الزعيم الصيني ماوتسي تونج، في نظرية عوالمه الثلاثة "بالعالم الثالث"- اختارت البقاء ضمن "كشكول دول عدم الانحياز"، وهو الانحياز الذي لا مفر منه، بسبب تعدد أشكال السيطرة الاقتصادية قبل العسكرية، ونزاعات الحدود، والحروب الأهلية، والمخططات التي وضعتها القوى الاستعمارية قديما، وهي الدول النافذة والمسيطرة على العالم، بطريقة أو بأخرى، لحماية مصالحها الجيوسياسية على المدى البعيد، عبر سلاسل من الانقلابات العسكرية، لم تسلم منها أغلب دول العالم الثالث أنذاك، لإشغال هذه الدول الحديثة، عن طموحاتها الكبرى، كتحقيق دولة المؤسسات الديموقراطية، وما يتبع ذلك حتما من تحقيق التنمية الشاملة والإقلاع الاقتصادي، ومن ثم امتلاك آليات الاستقلال الحقيقي، لا المجازي !!.
فقد ظلت موريتانيا تحصل على الأسلحة والمعدات، مثل بعض طائرات النقل العسكري الطغيرة، والطائرات الخفيفة، والمدافع الثقيلة، والمدرعات الخفيفة،وأنظمة الاتصالات والقيادة من فرنسا وبريطانيا وأسبانيا وبلجيكا والمانيا والولايات المتحدة، وكلها دول نافذة في حلف شمال الأطلسي" الناتو"
عقد التسعينيات.. وبداية اهتمام بعض دول الناتو بموريتانيا
ومنذ منتصف التسعينيات زاد الاهتمام الأسباني بموريتانيا، وبلغ ذروته من خلال زيارة ملك أسبانيا لموريتانيا على رأس وفد هام، وألقى كلمة ذكًر فيها، أن موريتانيا الحالية، وإن كانت فقيرة في الحاضر، فهي غنية وقوية في الماضي،لأنها بلاد المرابطين الفاتحين، وموطن يوسف بن تاشفين الذي وطأت جيوشه الأراضي الأوربية، ذات مرة معتبرا أن العلاقات بين موريتانيا وأسبانيا، بدأت من تلك الحقبة، ولذلك ظلت أسبانيا تطالب بدمج موريتانيا ضمن استراتيجيات حلف الأطلسي الأمنية.
وفي مطلع الألفية حصل نوع من التنافس على النفوذ في موريتانيا، بين فرنسا والولايات المتحدة،- حتى أثار قلق جامعة الدول العربية، في تقرير أعدته آنذاك - حيث ذكرت صحف فرنسية وغربية، أن الولايات المتحدة طلبت إجراء مناوورات عسكر ية على الأراضي الموريتانية، في شهر سبتمبر 2005، وأن حكومة ولد الطائع وافقت على الطلب الأمريكي، وسط تحفظ من فرنسا، مما يرى البعض أنه عجل من بين أمور أخري، بانقلاب الثالث من أغسطس 2005، على نظام الرئيس معاوية ولد الطائع.
وإبان تنصيب الرئيس المدني المرحوم سيدي ولد الشيخ عبد الله، أرسلت زعيمة "حلف الناتو": الولايات المتحدة الآمريكية، أكبر وفد في تاريخ العلاقات الموريتانية -الأمريكية، مكون من خمس وفود يستقلون خمس طائرات، من ضمنها واحدة من البنتاغون، وواحدة من وزارة الخارجية، وواحدة من الكونجرس، وواحدة من رجال الأعمال الآمريكيين، وكان الوفد يضم جون نيغرو بونتي مساعد وزير الخارجية الآمريكي، وقائد قيادة قوات "الآفريكوم" المختصة بإفريقيا.
الاهتمام الأطلسي الجديد بموريتانيا، بسبب أهمية دول الساحل،و الهجرة السرية، والتغلغل الروسي.
بدأ مستوى التعاون يتطور منذ عام 2010، والتوقيع بين موريتانيا والحلف على “برنامج التعاون الفردي”، الذي عرف بالصندوق الائتماني الخاص بتمويل بلغ مليوني يورو. وتمحور تدخل هذا الصندوق حول تدمير الذخائر المندثرة، وبناء مستودعات للذخائر، إضافة إلى إعادة دمج قدامى العسكريين.
و في منتصف يناير 2021، زار الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، مقر حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل،وأجرى مباحثات مع الأمين العام للحلف جان ستولتابيرغ، تركزت حول قضايا الأمن والدفاع في منطقة الساحل الأفريقي.
وأعلن حلف الناتو آنذاك أن ولد الغزواني هو أول رئيس موريتاني يزور مقر الحلف منذ استقلال موريتانيا عام 1960، في خطوة بدا أنها تمهد لمرحلة جديدة من التعاون والشراكة بين الحلف وموريتانيا.
وصرح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي إنه (سعيد بالحوار المثمر) ، الذي أجراه مع ولد الغزواني، مشيراً إلى أن هذا الحوار (يمكن أن يقود إلى تعاون أوسع ما بين الناتو وموريتانيا، خاصة في مجال تأمين الحدود).
وخلال آخر قمة للحلف نهاية يونيو الماضي، وصف الأمين العام المساعد المكلف الشؤون الأمنية في الناتو، خافيير كولومينا، موريتانيا بالشريك الوحيد للناتو في منطقة الساحل.
موريتانيا "حليف استراتيجي" في منطقة الساحل
يرى مراقبون أن العلاقة بين موريتانيا والحلف الذي يضم 20 دولة بينها ثلاث دول عظمى،أعضاء في مجلس الأمن، وستة من الدول الصناعية الكبرى (المالكة لأغلب أسهم البنك الدولي ،وصندوق النقد الدولي، وتتبع لهما أهم عملتين دوليتين هما الدولار واليورو)، كما أنها دول نافذة على مستوى منظمات: التجارة العالمية، الأغذية والزراعة "FAO " ،الصحة العالمية .. وصلت هذه العلاقة إذن إلى درجة تصنيفها ك"حليف استراتيجي"، نظرا للموقع الجيوسياسي الهام، وغنى باطن الأراضي الموريتانية، بالثروات المعدنية والأسماك خاصة البترول والغاز الطبيعي، ونتيجة لقربها من أوربا،وقربها نسبيا من الولايات المتحدة الآمريكية، ولما تلعبه موريتانيا من دور «محوري» في منطقة الساحل، إضافة إلى دورها القيادي في مجموعة الدول الخمس في الساحل، ونجاح مقاربتها الأمنية ضد انتشار الجماعات المسلحة، وسيطرتها على كامل أراضيها، في ظل سياق أمني معقد تمر به الدول الفاشلة في المنطقة.
وفي أواخر مايو الماضي، قال الأمين العام المساعد للشؤون السياسة و الأمنية بحلف شمال الأطلسي خافيير كولومينا، إن الحلف سيتخذ خلال السنوات المقبلة حزمة من الإجراءات لتعزيز التعاون مع موريتانيا.
واوضح كولومينا أن الحلف يعمل على تعزيز وتعميق التعاون مع موريتانيا باعتبارها دولة (محورية في المنطقةّ) و (شريكا قديما للحلف).
أسبانيا "عراب " التقارب بين موريتانيا وحلف الناتو منذ عقود
اسبانيا التي تقود التقارب الأطلسي الموريتاني لها مشاكلها مع المغرب، ودولة السنغال صغيرة المساحة ولا توفر عمقا استراتجيا ، ودولة مالي حبيسة وغير مستقرة أمنيا، أما الجزائرفرغم كبر حجمها فهي غير مطلة على الواجهة الأطلسية، وفوق ذلك لها ارتباطاتها القديمة مع روسيا والصين، لهذه الأسباب مجتمعة وقع اختيار الحلف الأطلسي على موريتانيا.
وبذلك نجحت نواكشوط أخيرا في أن تكون وجهة لقيادات بارزة من الحلف ومن دول منضوية فيه، آخرها رئيس أركان الدفاع الإسباني الأميرال تيودورو إستيبان لوبيزالشهر الماضي.
وتقود اسبانيا مبادرة التقارب بين موريتانيا والحلف، حيث تعتبر مدريد أن (الخطر يأتي من الجنوب كما يأتي من الشرق)، في إشارة إلى عدم الاستقرار الذي قد ينفجر في منطقة الساحل الأفريقي، وهي أقرب الدول الأوروبية للقارة السمراء.
وشددت إسبانيا خلال قمة مدريد الأخيرة على ضرورة التصدي للخطر القادم من القارة الأفريقية، فسيطرة الجماعات المسلحة على مناطق واسعة من دول الساحل، وعدم استتباب الأمن، قد يفجر موجة هجرة غير نظامية لا سابق لها، ستكون اسبانيا أول البلدان الأوروبية تعرضا لها.
ويتطلع الحلف أن تلعب موريتانيا بحكم موقعها الجغرافي، دور خط الدفاع الأول، حيث تشترك بحدود شاسعة مع مالي، التي بدأت أخيرا التقارب مع روسيا، العدو الأول لحلف شمال الأطلسي، وهو ما يبرر زيادة التقارب بين موريتانيا والحلف الساعي إلى التصدي للتمدد الروسي الذي بدأ في المنطقة على حساب الحليف لتقليدي لبلدان الساحل فرنسا.
موريتانيا ضمن دائرة استرانيجية حلف الأطلسي الجديدة
يشمل التعاون بين نواكشوط والحلف، مجالات مايسمى بمحاربة الإرهاب والتصدي للهجرة غير الشرعية، وذلك عبر تقديم تمويلات لزيادة قدرات موريتانيا العسكرية وتدريب الجيش، وتطويره.
وهذا ما أكد عليه الأمين العام للحلف يان ستولتنبرغ في مقابلة مع صحيفة اسبانية، قبيل قمة مدريد، حيث قال إن (موريتانيا مهمة بالنسبة لنا، وسيتفق القادة على حزمة مساعدات لهذا البلد، لأننا متأكدون أن أمن جيراننا يعني أمننا).
وأوضح ستولتنبرغ، في مؤتمر صحفي عقب القمة، أن حزمة المساعدات (لدعم بناء القدرات الدفاعية لموريتانيا)، ستتركز على (الاستخبارات والأمن البحري والعمليات الخاصة، ومحاربة الهجرة غير النظامية).
وتدخل هذه المساعدة في إطار خطة الناتو للعقد المقبل المعروفة ب "المفهوم الاستراتيجي الجديد"، والذي أكد على أهمية منطقة الساحل الأفريقي والخطر المحتمل الذي قد يأتي منها.
لكن عين الحلف على التمدد الروسي في المنطقة، خاصة بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وتهديدات روسيا للأوربيين، حيث وصل النفوذ الروسي إلى مالي، التي اختار قادتها العسكريون التحالف مع روسيا، تاركين ورائهم ظهريا اتفاقيات عسكرية جمعت لعقود البلد الأفريقيالمضطرب، مع فرنسا المستعمر السابق، وأحد أعضاء الناتو الفاعلين في المنطقة.
ويرى الخبراء السياسيون أن العلاقات القوية بين موريتانيا وحلف الأطلسي، والتطور المتسارع لهذه العلاقات خلال العقد الأخير، تحتم على موريتانيا ضرورة الحصول على أكبر المكاسب العسكرية ببناء جيش جمهوري مهني قوي، مزود بسلاح فعال، وقادر على مواجهة التحديات على جميع الأصعدة جوا وبرا وبحرا.
ومكاسب اقتصادية بالاستعانة بدول الحلف وشركاتها العملاقة، لاستخراج النفط والغاز من "حوض تاودوني"، والحوض الرسوبي الغربي، مع ضمان أمن موريتانيا من القوى الإقليمية، التي لا تريد لموريتانيا مكانا ولا مكانة تحت الشمس، ويحزنها أن تستخرج موريتانيا ثرواتها، وتمير أهلها، وتحفظ أخاها، وتحقق التنمية، كإحدى الدول البترو دولارية الصاعدة.