بسم الله الرحمن الرحيم
بمناسبة مرور مائة سنة على وفاة الوالدة آمنة بنت يوسف رحمها الله، نقدم لمحة موجزة عن حياتها ودورها الإصلاحي، نخـتـصرها من مسودة بحث ما زلنا بصدد إعداده، والله ولي التوفيق .
بتاريخ 29 محرم1444ه الموافق 27-8-2022م
إن الحديث عن الصالحة آمنة بنت يوسف ما هو إلا كغيره من الأحاديث المتصلة بأعلام عصرها حيث يقف الباحث حائرا بين يدي الكتابة عنهم لندرة المراجع، لأن المرجعية في هذه الكتابات إنما هي الذاكرة الشعبية التي لها ما لها وعليها ما عليها، وهذا ما عبر عنه ابن خلدون قديما حين تحدث عن صعوبة تدوين تاريخ القبائل المستوطنة في المغرب الأقصى، قال: "لم يكن لهم ملك يحملهم على العناية بتقييد أيامهم وتدوين أخبارهم ولم تكن مخالطة بينهم وبين أهل الأرياف والحضر، فبقوا غفلا إلى أن اندرس الكثير من أخبارهم، ولم يصل إلينا منها إلا الشارد القليل" .
فالمتتبع للروايات والحكايات التي لها صلة بالصالحة آمنة بنت يوسف "لاسيما في شأن كراماتها"، يجد أنها رغم علو سندها وتواتر البعض منها وشهرة البعض لا تخلو من غلو تارة ومن تقصير تارة أخرى، وكما قيل فإنما لا يدرك كله لا يترك كله، علما أن الناس في مواجهة كرامات الأولياء ما بين إفراط وتفريط وقل من يتوسط، ولذلك سنحاول غربلة ما نتوصل إليه من تلك الروايات وأقوال العلماء المعاصرين لها شعرا ونثرا، والمراسلات والمخطوطات الموجودة والمقابلات الشخصية مع بعض أبنائها وأحفادها وبعض تلامذتها والمعاصرين لها.
ونرجوا أن نصل من خلال تلك المحاولة إلى معلومات حرية بالتدوين في بحث يمكن تسميته بذلك، وقبل الوصول إلى تلك البغية فإننا نلخص الآن هذه الورقة التعريفية، وستكون مشتملة على النقاط التالية:
- الحيز الجغرافي لآمنة بنت يوسف
- نسبها ومولدها ووفاتها
- محيطها الاجتماعي والثقافي
- نشأتها وظهورها
- دورها الإصلاحي
أولا: حيزها الجغرافي
يمكن تقسيم الخارطة الجغرافية التي تنتمي إليها آمنة والتي عاشت فيها إلى حيزين أساسين:
أولهما "تكانت" موطن أجدادها، وهي التي تعتبر موطن الإمارة الموروثة عن المرابطين بقيادة الأمير"محمد بخونة"، وقد ظلت ردحا من الزمن تحت قيادة واحدة بداية بالأمير محمد بخونة إلى الأمير محمد ولد محمد شين، ثم تحولت بعد ذلك إلى إمارتين استقرت إحداهما في تكانت والأخرى في لعصابة.
الحيز الثاني "آدرار" امتدادا إلى المناطق الشمالية والغربية من البلاد، وذلك أن امحمد الجد الثالث لآمنة قد تغرب واستوطن آدرار، وتزوج من بعض القبائل العريقة والمعروفة بالعز والشهامة هنالك "أولاد غيلان"، فولد له عبدالله الذي تزوج من نفس القبيلة فولد له يوسف والمختار وهكذا ظلت الأسرة متوطنة في ذلك الفضاء الواقع بين آدرار وإنشيري وأرض الساحل.
ثانيا: نسبها ومولدها ووفاتها
1-نسبها: هي آمنة بنت يوسف بن عبدالله بن امحمد بن أحمد بن خيار بن محمد بخونة الإدوعيشي اللمتوني الحميري، وأمها أمات بنت اعل ولد لعميم من قبيلة "الكرع" الغنية عن التعريف فرع الدخن، وأمات هذه هي التي لقبت بها آمنة ابنها أحمد ابن المامي لأن العرف الاجتماعي يقتضي أن لا تنطق الوالدة باسم ابنها الأكبر لا سيما إذا كانت حديثة السن، فأصبحت أسرة آل أحمد ولد المامي تعرف بأهل أمات .
2- مولدها: ولدت آمنة بنت يوسف سنة 1262ه - 1845م، في منطقة "البطحة" بتيجيريت.
3- وفاتها: توفيت رحمها الله سنة 1344ه - 1926م، ودفنت في بلدة "اندكبعد" الواقعة في الجنوب الغربي من إنشيري.
ثالثا: محيطها الاجتماعي والثقافي
1- محيطها الاجتماعي: سبقت الإشارة إلى أن امحمد الجد الثالث لآمنة توطن آدرار بعيدا عن موطنه الأول تكانت، وكذلك استمر في تلك الغربة ابنه عبدالله ثم ابنه يوسف الوالد المباشر لآمنة، فاقتضت الظروف الاجتماعية آن ذاك أن تكون المصاهرة والمخالطة مع المحيط الاجتماعي المناسب، حيث تزوج امحمد ثم ابنه عبدالله من قبيلة أولاد غيلان كما سلف ذكره، وأما والدها يوسف فتزوج بالمرأة الصالحة أمات بنت اعل ولد لعميم.
وقد شهد ذلك المحيط الاجتماعي تحولا جديدا واضحا بعد ظهور آمنة وبروز رمزيتها، فبعد أن كان المحيط يغلب عليه الطابع "العربي المعني بحمل السلاح" أصبح يغلب عليه طابع الزوايا، وخاصة أهل الشهرة بالعلم والصلاح منهم في ذلك العصر وفي ذلك الحيز الجغرافي، كتندغة وتاشمشة والشرفاء.
ويتمثل هذا التحول في أن آمنة بعد زواجها الأول من ابن عمها المعروف بالاستقامة المامي ولد المختار، الذي يلتقي معها في النسب عند جدهما عبدالله، تزوجت بعده بالولي الصالح علي ولد محمد المختار ثم بشقيقه العالم العامل أحمد وهما من آل سيدي المصطفى "سيدي المزدف" بيت العز في قبيلة تندغة، وقد أنجبت من زوجها الأول ابنا وبنتا هما أحمد الملقب "ول أمات" والد الأسرة المعروفة بأهل أمات وفاطمة الملقبة "بنت انجببنان" ولم تعقب، ومن زوجها الثاني ابنا وبنتا هما أحمدو والد أسرة أهل أحمدو ولد علي بن محمدالمختار ولمنية والدة الأسرتين أهل الشيخ محمدمحمود ولد تكرور الموسويين والشرفاء أهل سيدي محمد بن بدي الصعيديين، ومن زوجها الثالث بنتا واحدة هي أم الخيري الملقبة "خيرة" والدة محمد ولد أحمد بن محمدبوبة الملقب "ولد آمنة"، وقد تزوج أبناؤها في ذلك المحيط الاجتماعي المتمثل في تاشمشة وتندغة والشرفاء الأجلاء.
2- محيطها الثقافي: وهو غير بعيد عن محيطها الاجتماعي فقد قدمت آمنة كما سلف ذكره من بيت عز وشوكة لتنزل في محيط علم ومعرفة: فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر
ذلك أن العصر الذي عاشته عصر اهتمام بالعلوم الشرعية وانقطاع للعبادة وعلى هذا كان محيطها الثقافي "الزاوي" آن ذاك منكبا على موائد العلوم الشرعية، وقد انخرطت آمنة في سلكهم فأصبحت واسطة عقدهم تعليما وتعلما، فهذا العلامة محمدعبدالله ولد النونو "أباه" الموسوي يروي عنها ويحيل إليها، ويروي عنها كذلك العلامة التندغي الشكاني المامي ولد أبابه بعض التفاصيل الفقهية.
وتجدر الإشارة إلى أن علاقتها مع الكل من فقهاء وصلحاء هي علاقة إفادة واستفادة لها أهدافها السامية ونفعها المتعدي، ويروى عنها قولها: ليس لي شيخ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكننا القول إنه ما من أحد من أهل العلم والصلاح في قطرها إلا أخذ عنها أو أخذت عنه، أو لها معه مواقف وروابط، فمنهم على سبيل المثال لا الحصر: شيخها أحمد ولد زايد المسلمين وباب ولد حمدي، والشيخ ماء العينين بن الشيخ محمدفاضل، والشيخ محمد المامي ولد البخاري، ولمرابط محمذن فال ولد متالي ومحمد ولد محمدسالم وأبناؤه، وابوه بن حيلاهي ومحمد ابن أحمديورة الذي زارها في بلدها والشيخ عبدالعزيز ولد الرباني.. وغيرهم كثير، ولابد من الإشارة هنا إلى أنه سيتم التفصيل "في قصصها ومواقفها وأشعار من مدحها من هذه الشخصيات العظيمة وغيرهم ممن أخرنا ذكرهم ولرب مؤخر في رتبة التقديم" في البحث القادم، فإنما هذه الورقة لمحة موجزة كما أسلفنا .
نشأتها وظهورها:رابعا
يتطلب الحديث عن ظهور أمارات الصلاح على آمنة بنت يوسف العودة إلى ما قبل ولادتها، فقد كان صلاح والديها وقوة صلتهما بالله أمرا شائعا بين معاصريهما، فقد نشأ والدها يوسف بين أبويه نشأة صلاح كما كانت والدتها أمات بنت لعميم ذات استقامة وكرامات معروفة، ومن ذلك أن أي حي كانت فيه يتوقّى أهله الإقدام على المعاصي لما شاع بين الناس من إحساسها بالمعصية عند وقوعها فتشعر بضيق نفس وغمٍّ عظيم، وقد تعلقت آمنة وهي صغيرة بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه وتشوقت لذكره في جميع أحوالها، الأمر الذي جعلها تولي الشرف اهتماما كبيرا وتجل أهله وتقدمهم على غيرهم، ولا أدل على ذلك من محبتها الفائقة للشرفاء "أبناء أبي السباع" وإشادتها بشرفهم وتبرئها ممن لا يحبهم، كما اشتهرت بالإنفاق كذلك فكانت تطلب من أبيها أن يكثر من نحر الجزر وتوزيعها على المساكين .
ويروي علامة عصره محمدسالم ولد عدود رحمه الله، في شأن ما وهب الله لآمنة بنت يوسف عند نشأتها من علم وفهم وتقوى، يقول: أخبرتني أمي النجاح أن أمها خدّيج حدثتها أن آمنة تربت على خصلتين لم يكن لها فيهما شيخ وهما الورع والإنفاق، وتروي خديج أنها تربت مع آمنة في مكان واحد فتشهد على شدة تقواها ونشأتها في الطاعة، وكانت تقول لها يا بنت محمد يحظيه "عسّك من المحارگ" تعني المحارم، ويعلق محمدسالم رحمه الله فيقول: إن الناس كانوا يتساهلون في الرضاع، وذلك على غرار قول الناظم: جلوس محرم مع المحرمة لم يخل في زماننا من حرمة .
خامسا: دورها الإصلاحي
تعتبر آمنة بنت يوسف رمزا من رموز الصلاح والإصلاح في بلاد شنقيط ؛ فقد شهد معاصروها من العلماء والصلحاء على رسوخ قدمها في العلم والدعوة للإصلاح وتوفيقها في ذلك المسعى، وهذا ما عبر عنه الشيخ عبد الله الملقب كلاه بقوله مخاطبا لها:
كفى بك فخرا أن تندغ كلها وأقطابها والخمس مأوى الشرائع
لديك قعودا ترتجي عفو ربها وإفـضـــــــالـه أما حــديا الـمــــنازع
ورغم القبول الذي وضع الله لآمنة والمنافع المادية والمعنوية والروحية التي أجرى الله على يديها ، ما جعلها قبلة للمحتاجين والمرضى وطلاب العلم والعجزة ، فضلا عن أكابر القوم ومنتسبي بيوتات الشرف والعز في محيطها الجغرافي ( منطقة الگبلة وإينشيري وتيرس وبقية بلاد الساحل ) رغم ذلك ، ورغم ما تتناقله الأفواه وتثبته الوقائع من الكرامات، فإنها لم يؤثر عنها ما يعكر صفو هذا الإصلاح من مخالفة للسنة أو تعال على الناس.
كما تتضافر رواياتهم عن اشتداد غضبها عند ما تسمع من يصفها بالولاية أو الصلاح، حسبها أنها أمة لله ترجو رضاه وثوابه وتخاف غضبه وعقابه، هذا فضلا عن كونها -وهو أمر لا يزال إلى الآن في أحفادها وأصحاب الصلة بها- لا تسمح بالبدع بما فيها من تعليق التمائم واستخدام الجداول ونحوها مكتفية بالكتاب والسنة والرقية الشرعية والأدعية المأثورة .
ولا يكاد المتحدثون عن سيرة آمنة يجمعون على شيء إجماعهم على حساسيتها من البدع ونفرتها من المحرمات والمعاصي، وبعدها عن الشبهات، بالإضافة إلى ما هو معروف من مناهضتها للنصارى وتصديها لمحاولة اختراقهم للمجتمع ببعثاتهم التنصيرية كما هو معلوم في قصة تصديها للمدعو"سيدي عالي"، أما سعيها في إصلاح ذات البين فالأحاديث فيه كثيرة وشواهدها متواترة، أما عن بثها للعلم فيتحدث الكثير من المعاصرين لآمنة عن حرصها على إيواء طلاب العلم ، وأنها كثيرا ما كانت تعوض أولياءهم بالمال عنهم ليتفرغوا لحفظ القرآن وطلب العلم .. فكانت "محظرتها" نموذجا بين سائر المحاظر يرتادها الناس من كل حدب وصوب منتجعين حفظ القرآن وتحصيل العلم، ولها كرامات في ذلك.
وكأن الشيخ عبدالعزيز ولد الرباني قد اختصر دور آمنة الإصلاحي والاجتماعي والتعليمي بقوله فيها:
فأنت لخلق الله شام تبالة وبحر كتاب مصحف مطر هدى
ولعلنا بهذه الخلاصة التي ألمحنا فيها إلى الحيز الجغرافي الذي انحدرت منه، والحيز الذي عاشت فيه وإلى نسبها وتاريخ مولدها ووفاتها ومحيطها ودورها الإصلاحي، نكون قد زودنا القارئ بما يزيل بعض غلته في انتظار إكمال البحث الذي نرجوا أن يتم به شفاء الغليل بإذن الله.
رحم الله الوالدة آمنة بنت يوسف ورحم من مضى من ذريتها وبارك في الباقين وصلى وسلم على محمد و آله وصحبه .