الشيخ محمد الحبيب ولد أحمد يتحدث لموقع الفكر عن الإمام بداه وعطائه الدعوي 

الإمام بداه وعطاؤه الدعوي 

الاستاذ محمد الحبيب ولد أحمد: على كل حال كان هناك علماء وأئمة لهم تأثير قوي في الساحة الدعوية والثقافية والعلمية خصوصا الإمام الشيخ بداه رحمه الله، ولكن الشيخ بداه - مع أنه يرجع له الفضل في النهضة الثقافية العلمية وأنه كان من آباء العمل الإسلامي بصفة عامة - كان ينأى بنفسه عن التموقع وكان يرى أن ذلك أجدى لخدمة المقصد الذي يريده ولذلك كان حريصا على التحفظ من الانتماء لتيار معين لدرجة أنه كان حين يشارك في نشاط أو ندوة للجمعية الثقافية الإسلامية يقول في كلمته الشهيرة "راني ماني منكم ولانكم مني ولاني افطنتو من وزارة الشؤون الإسلامية ولاهي مني، أنا إلاه وانتوم الهيه". ومع ذلك كان محل تقدير لدى الجميع وكلمته مسموعة ومعتبرة وكان يمثل مرجعية بالنسبة للجميع يلتقي عندها الجميع وكلما وقعت مشكلة أو تأزم الوضع في مسألة ما، لدى العاملين للإسلام يتدخل بداه لتهدئة الأوضاع، وحل النزاعات ولعلكم تذكرون خطبه التي كان يقوم بها في فترة الاعتقالات، وهناك ما لا يقوله في الخطب ولكنه يقوله في المجالس ويقوله للمسؤولين، الإمام بداه كان يعمل على جبهات مفتوحة ولم يكن يعمل في إطار مغلق، وكان يعمل على مكافحة التغريب وما يدعوه "مُسْيَ" (Monsieur)، بالنسبة لبداه "مُسْيَ" (Monsieur)، عنده قوانين مرفوضة مخالفة للشريعة الإسلامية القوانين الوضعية؛ ولذلك عمل على جبهة مكافحة القوانين الوضعية، وكذلك "مُسْيَ" (Monsieur)،  لديه أخلاق تخالف أخلاق المسلمين (التفسخ والانحلال الأخلاقي والمجون)، فبداه كان يعمل على محاربة هذه الجبهة، وكذلك في الجانب الآخر يعمل على محاربة الربا ويحاضر حول خطورته ويكلم التجار ورجال الأعمال حول ذلك، يمكن القول باختصار إن بداه كان حاضنة للشباب المسلم الذي يحمل هم الدعوة ولديه رؤية جديدة وفهم عصري للإسلام وكان حين يجالسنا وحدنا ينصحنا وينتقدنا ويقول لنا في بعض الأمور مثلا " ذاك ماه صالح ولا يالل اتعدلوه وانتوم ما فتو عدتو تعرفو العلم" ولكنه في المقابل حين يكون أمام الآخر يدافع عنا ويتبنانا وهذا في الحقيقة هو الذي أمن الله به الصحوة الإسلامية فترة طويلة في حياته رحمه الله، هناك قدرة فائقة على التوازن بين أبوة الصحوة الإسلامية وترشيدها كان يمتاز بها بداه رحمه الله، أذكر أننا كنا نأتيه ونحن شباب متحمسون لتغيير الواقع ونحمل نشريات تتناول المسلكيات المشينة في المجتمع ويأخذها ويقول لنا "هذا انتوم ما يعنيكم، هذا يعنين آنا" وفي الخطبة الموالية يصعد على المنبر ويتناول تلك المواضيع بحكمة ورزانة وتقوم الدولة بإلغاء الكثير من تلك الأمور نتيجة ذلك، أذكر أن أحد الرؤساء - أظنه ولد هيدالة - استدعاه ذات مرة حول خطبة خطبها بداه وتكلم فيها عن أحداث سوريا 1982م. وقال له "إن هذه الخطبة تمس علاقة موريتانيا بدولة صديقة وشقيقة وأن هذا لا ينبغي؛ لأن المنبر منبر رسمي ولا ينبغي أن يذاع فيه ما لا ينسجم مع السياسة الخارجية الموريتانية" فرد عليه بداه بكملته الشهيرة "أنا حينما أقف على المنبر لا أفكر فيك انت ولا في أحد آخر، أفكر في قبري فقط، وما أقوله على المنبر أخاف إن لم أقله أن تسقط عليكم صاعقة من السماء، لكن إن أحببتم ألا أقوله أرسلوا من يخطب لكم، فأنا لا أريد الإمامة ولا أبحث عنها، وإذا انتزعتم المنبر لن أقيم مظاهرات ضدكم، ولن أتحدث في الجرائد، بل سأجلس مكاني، فإذا أتاني طالب يريد الإقراء أدرسه، ولو منعتموني التدريس سأتوقف عنه، وطلبتي الذين تتهمونهم دائما لم يعملوا ضرارا لحد ولو إراقة قطرة ماء، ولا ضرر منهم، ولا طموح لديهم في السلطة، فالسلطة إنما يريدها زملاؤك أيها الرئيس.".

وقد عامله الرئيس ولد هيدالة بأدب، وهذه قصة مشهورة حدثني بها مرارا بداه نفسه وأن استدعاءه جاء بعد أن بعث إليه الرئيس بوزير الشؤون الإسلامية عبدالعزيز ولد أحمد ومعه سيارة وحين جاءه قال له الوزير "أنا وأنت يريدنا الرئيس".

 فقال له " اياك خير ؟ ".

 فرد عليه: " أنت كثيرا ما تطلب لقاء الرئيس ولقاء الرئيس صعب، الآن الرئيس هو الذي يريد لقاءك ". فذهب بداه معه وحين وصلوا إليه وجدوا أمامهم بعض أعضاء اللجنة العسكرية ودخلوا في قاعة انتظار ليس فيها أحد، وأغلقها الوزير دونه قليلا وعاد إليه وقال له "تفضل الرئيس يطلبك" وحين دخل على الرئيس  لم يجد أعضاء اللجنة الذين كانوا معه، وقال له الرئيس "الأمام ألم أقل لك أني أعتبرك مستشارا؛  وبالتالي ما ستقولونه يجب أن تنسقوا معي فيه، أو تنسقوا فيه مع وزارة الاعلام والخارجية؛ لأن الدولة يلزم أن تتحد سياستها، فالتفت بداه إلى وزير الشؤون الإسلامية وقال: "الوزير هل شهدت على أن الرئيس قال أني مستشارا له، وهذا يعني أنني وقت ما أردت لقاءه أجده".

وفطن الرئيس هيدالة أن بداه ربما لا يرغب في الحديث معه بحضور الوزير  فأعطى الرئيس إشارة للوزير بالمغادرة، فخرج الوزير وقال بداه للرئيس: "محمد خونا هذا المقعد الذي تجلس عليه أنا أحق منك بيه؛ لأني منذ 30 سنة أعمل لصالح البلد، قبل أن تدخل أنت إلى المؤسسة العسكرية".

فقال الرئيس بصدر رحب "صحيح والله، تفضلوا واجلسوا على الكرسي".

 فقال له بداه "لا، دعك في مكانك" فقام الرئيس وجلس على كرسي آخر بجانبه فأكد بداه على الرئيس ما قلته لكم سابقا من أنه لا يرغب في الإمامة ولا يخاف في الله لومة لائم وقال له "إن أردتم أخذ المنبر فخذوه وأنا مستقيل منه".

 فقال له الرئيس "لا لا تستقل منه، وليس باستطاعة أحد أن يقول لك شيئا، ولكم كامل الحرية فيما تقومون به، استودعك الله".

 هذه القصة رواها لنا بداه مرارا وتكرارا أحيانا في جماعة قليلة وأحيانا في جماعة كبيرة، كان لمرابط بداه أمة رحمه الله وكان صمام أمان لهذا المجتمع يوفق بين جميع التيارات ومع ذلك يتعرض لمؤامرة من طرف بعض الدوائر والجهات، يعارضه تيار العلمانيين في السلطة ويطلبون من الرئيس المختار عدم الخضوع له ويسخر منه الكادحون بمسرحياتهم؛ لأنه كان حجر عثرة أمام مخططاتهم السيئة ومع كل ذلك ظل بداه صامدا أمام جميع تلك الأمور.

وبخصوص مشروع المعهد العالي فإنه يدخل في إطار التعاون بين السعودية والحكومة الموريتانية، ويمكن أن تكون فكرته قديمة لكن تجسيدها لم يقع إلا أوان افتتاحه، طبعا كانت هناك مطالبة لإيجاد مؤسسة إسلامية تخرج قضاة الشريعة الإسلامية، وكانت مادة التربية الإسلامية محدودة جدا في المناهج التعليمية خصوصا في التعليم الثانوي ووقع حراك للمطالبة بدمج الشريعة الإسلامية مادة رسمية وكان للجمعية الثقافية الإسلامية دور في ذلك، نسيت أن أقول لك أيضا إنه كانت هناك مؤسسة تسمى "لجنة المساجد والمحاظر" لعبت دورا كبيرا وهي هيئة غير مرخصة أنشأها بعض رجال الاعمال المحسنين بغية خدمة المساجد والمحاظر والحقيقة أن وجودها التاريخي سابق على وجود الجمعية الثقافية الإسلامية ،مع أنها واقعيا كان بينها تعاون وتكامل مع الجمعية الثقافية الإسلامية؛ لأن بعض أعضاء تلك اللجنة كانوا ضمن المؤسسين للجمعية الثقافية، وكانت تلك اللجنة وراء فكرة تأسيس معهد ابن عباس الذي كان يعتبر أكبر معلمة غير رسمية من معالم التعليم الشرعي والإسلامي في موريتانيا ،هذا المعهد أسسته لجنة المحاظر والمساجد، بإدارته وميزانيته.