د. ديدي بن السالك لموقع الفكر: نعم لإقامة مؤسسة تحارب الفساد.

موقع الفكر: نود منكم إعطاء المشاهد تعريف مصطلح الحكامة؟

د. ديدي بن السالك: ظهر مصطلح الحكامة في أحضان مؤسسات التمويل الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في أزمة المديونية في مرحلة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات وتعزز عندما اكتشف العالم أنه لا أمل للإصلاح في إفريقيا إلا بإيقاف الفساد؛ لأنه هو سبب المديونية وسبب تعثر التنمية؛ وبالتالي جاءوا بمفهوم الحكامة كمفهوم جديد وهو أن تتوجه الدولة بكافة مواردها بشكل يخدم المواطن ويخدم أهداف التنمية، وتقوم الحكامة على ثلاث مبادئ الشفافية والمساءلة والمحاسبة وهذا هو عموم منطلق مرتكزات الحكامة. والمرتكزات مترابطة  بعضها بعض، ولكن عندما نتحدث عن  الحكامة في موريتانيا فإننا نتحدث عن بلد يعاني محنة فساد غير عادية، فموريتانيا من بين دول شمال إفريقيا والمغرب العربي التي عانت منذ 1978م. من محنة فساد جعلت منها مجموعة بشرية تجلس على مجموعة من الثروات ولا تستطيع الاستفادة منها؛ وبالتالي فهذه الثروات إما أن يأخذها الأجنبي أو يأخذها مواطن متواطئ مع الجهات الأجنبية وبالتالي لا يستفيد منها الشعب الموريتاني. وعندما نتحدث عن الحكامة في موريتانيا فإن أول ما نتحدث عنه هو محاربة الفساد وإقامة بنية حقيقية لمحاربته بمعنى تصفية العقود الماضية من الفساد فما لم تتم تصفية ملفات الفساد خاصة  ملف  العشرية الأخيرة فلن نصنع شيئا؛  لأن ما وقع منذ 1978م. حتى 2008م. فساد بنيوي برعاية مؤسسات الدولة أما  منذ 2008م. فصارت عندنا سلطة توظف كافة الأجهزة كالموظفين في مؤسسات الدولة لنهب موارد الدولة من أجل تحويل هذه الأموال إلى أملاك شخصية لا يستفيد منها الشعب وأول شيء هو  استعادة هذه الأموال ومعاقبة من قام بهذا النهب فما لم تتم تصفية هذا الملف لن يقتنع أحد بجدية محاربة الفساد وهذا هو المنطلق الأول.

والمنطلق الثاني هو إقامة مؤسسات فعلية لمحاربة الفساد ومعنى ذلك إقامة آليات وطنية لوضع نظم المحاسبة والشفافية والمساءلة  ودورها هو خلق الآليات التي تمنع الفساد بأشكاله والفساد يعرف بأنه: "استخدام المنصب أو المركز لمصالح شخصية". والبعض يتصور أن الفساد تطلق على الرشوة أو سرقة المال فقط، فالمحاباة في تعيين الموظف غير الكفء والسرقة فساد والرشوة فساد و التحايل أو عدم شفافية المسابقات  فساد والمحسوبية والزبونية فساد و التمالؤ في الصفقات فساد وفساد السلطة فساد، وأخطر أنواع الفساد، الفساد السياسي وفساد الصفقات العمومية وعندما يحصل الفساد السياسي سيصبح هناك فساد مالي وإداري وتصبح السلطة الحاكمة تدير الفساد.

 والخطوة الثالثة: إقامة مؤسسة تحارب الفساد.

 والخطوة الرابعة: تفعيل القوانين التي تحارب الفساد ومجانستها  وتفعيلها.

 والخطوة الخامسة تفعيل مؤسسات الرقابة والضبط، وعندنا ما يزيد على اثني عشر جهازا لمكافحة الفساد أدناها مفوضية الشرطة لمكافحة الفساد وأعلاها محكمة الحسابات وكل هذه الأجهزة والهيئات مرورا بالمفتشية العامة للدولة والمفتشيات الداخلية، والمفتشيات الداخلية   مفروض أنها هيئات رقابة بدرجات متفاوتة ولا بد أن تكون قائمة بدورها  ومفعلة  فبعضها دوره قبلي وبعضه مواز  وبعضه بعدي و تنجز تقريرا سنويا حول الاختلالات وتوضع أمام القضاء.

  والخطوة  السادسة هي وجود قضاء مستقل وقال عبد الرحمن بن خلدون "إن العدل أساس الملك وإن الظلم مؤذن بخراب العمران"  والعدالة ليس دورها محصورا في الحكم بين المتنازعين بل يجب  أن تكون هناك أجهزة قضائية تقوم بدورها بتطبيق القانون وردع مخالفيه و إرجاع المظالم إلى أصحابها وأن تعطي صورة عن لبلد؛ لأن الكثير من الأجهزة القضائية في البلد اليوم رغم ضعفها وهشاشتها وضعف الموارد البشرية والمادية لديها ولكن أخطر ما تواجهه هذه الأجهزة هو عدم تطبيق أحكامها. وعندما لا تطبق الأحكام القضائية فنحن لم نعد نتحدث عن القضاء، والقضاء دوره إنفاذ أحكام القانون وتطبيقها سواء كانت هذه الأحكام صادرة على الدولة وأجهزتها أو صادرة بين المواطنين ومن المفروض أن الجهات التنفيذية تنفذ أحكام القضاء،  وهذا الجزء مهم بالنسبة إلى القضاء ولكن الجزء الأهم  في صورة البلد بالنسبة لاستقلال القضاء هو دوره في جذب الاستثمارات وما من دولة يمكن أن تتطور ويحصل فيها الحد الأدنى من التطور إلا من خلال جذب الاستثمارات والاستثمارات ليست رؤوس أموال فقط بل هي موارد بشرية لديها خبرات وتراكم معرفة وجلب للتكنولوجيات الجديدة ، وعندما لا تكون لدينا عدالة قوية لا يمكن أن نتحدث عن جلب الاستثمارات وجلب رأس المال وعندما لا تكون عندنا عدالة قوية لا يمكن أن تحدث عن جلب الاستثمارات.

واليوم أثبتت التجارب في القرن العشرين  ثلاثة أمور: وهي: أن البحث العلمي له مردودية مباشرة على التنمية، وبدونه لا توجد تنمية، وكذلك لا تنمية بدون حكامة، وثالث الأمور أنه لا تنمية بدون استثمارات وأهم شروط الاستثمارات العدالة، لأنها أول ما يسأل عنه المستثمر ثم يسأل بعد ذلك عن النظام البنكي  ثم النظام المحاسبي  ثم يسأل عن  البنى التحتية وهل هي موجودة وأخيرا العمالة المدربة.

إذن موريتانيا بحاجة إلى تأسيس حكامة حقيقية. كيف نبني حكامة في موريتانيا؟ وإذا أردنا أن نبني حكامة في موريتانيا لا بد أن نهتم بعنصرين أساسيين في نفس الوقت إعادة هيكلة ما عندنا من مؤسسات سواء كانت مؤسسات خدمية ومؤسسات استراتيجية أو مؤسسات إنتاجية. لأن الهيكل الإداري الذي عندنا حاليا لم يدرس بشكل يراعي كيفية قيامه بدوره؛ لأن الهيكل الإداري يجب أن تراعى في بنيته جملة من الأمور وأول من يجب أن يراعي فيه عدم التداخل لأن الأجهزة عندما تكون متداخلة سيتوقف العمل الإداري و ثانيا: يجب أن يكون قادرا على المهمة الموكلة إليه وثالثا: أن يمتلك هذا القطاع رؤية  استراتيجية ورابعا مراعاة الموارد وألا تستنزف الموارد البشرية فلا نقلل من الموارد كيلا تعجز عن أداء واجبها ولا نكثر منها كيلا تستنزف الأموال الموجهة؛ لأنه صارت عندنا مشكلة في موريتانيا وفي كثير من دول العالم واهتمت بها الهيئات الدولية في السنوات الأخيرة هي أن تكون ميزانية المشروع  المخصصة لا تصل المستهدفين وإنما  تصرف في السيارات والمكاتب والأشخاص القائمين  عليه،كمشروع أمل حاليا في موريتانيا الذي تذهب 60% منه في التجهيزات والبنى والموظفين ولا تصل المستهدفين منه إلا 40%.

وأول ما يراعى في التنمية الهيكلة الإدارية وأن تكون هذه الهياكل الإدارية قادرة على أداء عملها بتناسق ولا تعاني من الترهل، فأجهزتنا تعاني من الترهل بل يقدر البعض أن 80 % من الموارد البشرية غير قادرة على العمل إما بسبب تزوير الشهادات، أو أن أصحابها لا يمتلكون شهادات أصلا ،أو أنهم في مجالات غير مجالات الاختصاص المطلوب،  كأن تعين جيولوجيا في محل طبيب أو تعين فيلسوفا في محل مهندس ميكانيكا ،وهكذا دواليك، وهذه الإشكالية جعلت 60% من النسبة المذكورة لا يذهبون إلى مكاتبهم بما أنهم عينوا بزبونية ومحسوبية وبالتالي لا يداومون في مكاتبهم، أو عينوا في اختصاصات غير اختصاصاتهم؛ وبالتالي لا يأتون إلى مكاتبهم.

إذن نحتاج إلى إعادة الهيكلة ،ليست فقط إعادة توازن الأجهزة الإدارية  من حيث النظر في الموارد البشرية والركن الثاني  يتعلق بالموارد البشرية لأن وضعيتها حاليا مزرية لضياع ثلاثة عقود ،مما يعني ضياع 75% من الثروة البشرية إضافة إلى عامل المشكلة الذي كنا نتحدث وهو أن غالبية العناصر إما مزورة شهاداتها أو أنها بلا شهادات أصلا أو من وظف منها وظف في مجال لا علاقة له به ،إذن فهذه الموارد تحتاج إلى إعادة تأهيل وتحسين للأوضاع المادية والمعنوية، فقطاع التعليم اليوم منهار ليس لضعف الموارد البشرية فحسب ،وإنما لسوء الأوضاع المادية أيضا، وأصبح المعلم اليوم يخجل من أن يقول إنه معلم.

وتقول الحكمة القديمة إنك إذا أردت أن تقضي على أمة فاقض على ثلاثة أمور، على رجل الدين القدوة، واقض على المعلم ،واقض على السيدة التي تفتخر بأنها ربة بيت.

ولهذه العوامل لا بد من الاهتمام بالموارد البشرية من حيث إعادة التأهيل ومن حيث الكفاءات، ومن حيث تحسين أوضاعها، وجعلها في ظروف تستطيع أن تعمل فيها.

وبعد ذلك نأتي إلى المنظومة القانونية فنقوم بتحسينها وتحديثها ومواءمتها وجعلها قادرة على مواكبة التطورات التي حصلت في الدولة والمجتمع والعالم.

وبعد ذلك تفعيل الأجهزة الرقابية فلدينا كثير من أجهزة الرقابة والضبط غير مفعلة ،فماذا يقوم به المجلس الاقتصادي والاجتماعي ؟ ماذا يقوم به مجلس الفتوى والمظالم ؟ ماذا تقوم به لجنة حقوق الإنسان؟ ما يقوم به المجلس الدستوري؟ ماذا تقوم به سلطة تنظيم الاتصالات؟ وماذا تقوم به سلطة تنظيم النقل؟ ماذا تقوم السلطة العليا للتعليم؟ كل هذه الأجهزة غير مفعلة ولا تعرف دورها بل إن بعضها لا دوره. ولا بد من إعادة هيكلتها ، فما كان ضروريا ينبغي إعطاؤه الوسائل اللازمة لأداء دوره ،وما كان منها غير ضروري ينبغي إلغاؤه.

فمن تداخل الأجهزة الحكومية أعطيك مثالا على مفوضية حقوق الإنسان ومندوبية تآزر ومفوضية الأمن الغذائي، وهذه الأجهزة تستنزف أموالا هائلة  وكان بالإمكان إدماجها في قطاع واحد يسمى قطاع التنمية الاجتماعية والتضامن، ويكون كل ما يقوم به عبارة عن برامج مواكبة للقطاعات الأخرى، ويكون هذا القطاع فيه مجموعة من الخبراء تشرف على تأهيل هذه القطاعات الاجتماعية ،ومراقبة وتطوير العقليات الاجتماعية لأن تغيير عقليات المجتمع وتحديثها بالتعليم والتعايش والاندماج لا يقل أهمية عن تغيير الواقع المادي.

وأما بالنسبة لأجهزة الرقابة والضبط فلدينا محكمة الحسابات ومفتشيات الدولة والمفتشية العامة للدولة والمفتشية العامة للمالية ،فينبغي أن يكون لدينا جهازان فقط، جهاز داخلي تابع لوزارة المالية، ومحكمة الحسابات تقوم بدورها باعتبارها جهازا خارجيا، وتكون لديها آليات  قانونية تجعلها تراقب رقابة قبلية وموازية وبعدية وتصبح قراراتها بمثابة أحكام قضائية أو أن تسلم تقاريرها إلى القضاء ويقوم بدوره مباشرة.

وأجهزة السلطة حاليا لا دور لها فسلطة الاتصالات معدومة عندنا ولا دور لها ولا يمكن أن ينهض اقتصاد اليوم دون الاقتصاد الرقمي، ولجنة حقوق الإنسان والآلية الوطنية لمكافحة التعذيب! ويمكن أن تكون لجنة حقوق الإنسان قامت في الفترة الأخيرة ببعض الدور وما هو الدور الذي يؤديه المجلس الاقتصادي والاجتماعي للدولة الموريتاني؟ بينما هو في العالم الآخر يعد تقارير ويوجه الاقتصاد الموريتاني؟ وماذا يؤدي مجلس الفتوى والمظالم! لا دور له.

ولا بد من تفكير عميق في هذه الأجهزة بالهيكلة والموارد البشرية والقوانين و النقطة التي تربط كل هذا، والأخيرة هي مسألة القضاء التي تحدثنا عنها فلا بد من إعادة الاعتبار له باستقلاله ومده بالموارد البشرية والمادية اللازمة وتحديث قوانينه.