نشرت في شهر مارس سنة 2010 كتابا تحت عنوان: "مباحث في سبيل العدل، معالجات لواقع التردي القضائي في موريتانيا وضرورات الإصلاح، الفترة من 1997 وحتى 2010" وعلى الرغم من انقضاء أكثر من عشر سنوات على نشر المؤلف فإنه لم يلق اهتماما رسميا كما لم يحظ الإصلاح القضائي منذ نشره باهتمام يذكر. وحتى على المستوى الشعبي لم أسجل أي تعليقات أو ردود مكتوبة على المصنف وإن أخذت علما بإجازة أغلب المطلعين لعناصر التشخيص المضمنة فيه مع أن البعض عاب عليه عدم تقديم وصفة للتغلب على الخلل القضائي الموصوف. لذلك وتلافيا لما قصر عنه الكتاب وفي أفق المنتديات المرتقب انعقادها حول إصلاح القضاء، أعرض ورقة مختصرة تتضمن الخطوط العريضة لخطة عملية لإصلاح القضاء الموريتاني ارتأيت نشرها عبر وسائل الإعلام لاعتقادي أنه على الرغم من الدور المحوري للسلطات السياسية والقوى المدنية في الإصلاح وأهمية ما يمكن أن تتمخض عنه المنتديات، فإن إصلاح القضاء شأن عام يجب أن يشرك فيه جميع المواطنين والشركاء وأن تتكاتف الجهود لتحقيقه وفرضه مراعاة لانعكاسه المباشر على تنمية البلاد.
وأمهد للمقترحات المشكلة لمبادرة الإصلاح بتشخيص الخلل القضائي وذكر الأزمات الرئيسية التي يتعين العمل على التغلب عليها.
أولا / تشخيص الخلل القضائي في موريتانيا
يكمن الخلل الرئيسي للقضاء الموريتاني في العنصر البشري وبخاصة القضاة الذين يشكلون العمود الفقري في كل جهاز عدلي: فالمتقاضي الذي يتاح له اختيار محاميه بحرية لا تكون له الخيرة عندما يضطر للجوء للقضاء لأن القاضي المختص محدد وظيفيا بموجب قواعد تجب مراعاتها.
ويمكن تشخيص النواقص الرئيسية في الأزمات التالية:
1. أزمة استقلالية ناتجة عن عدم ممانعة بعض القضاة في الخضوع للنفوذ الذي يقترن في الغالب مع القضايا ذات البال، التي كثيرا ما توسط فيها الوجهاء وذوو النفوذ وربما دفعوا أعضاء السلطة التنفيذية والتشريعية للتدخل فيها بصورة "مستورة" أو جلية بواسطة النيابة العامة التي تعتبر ذراعا قضائية للسلطة التنفيذية. وكما يقول عثمان سيد أحمد اليسع، الذي يعد أحد كبار قضاة موريتانيا (بحكم تقلده لوزارة العدل ولرئاسة المحكمة العليا وللنيابة العامة لديها) فإنه لا يتعين التعويل على تورع القاضي الذي ينفذ رغبة السلطة التنفيذية في الملفات التي تهمها، عن تحقيق مآربه الشخصية في القضايا التي لا تعيرها السلطات اهتماما خاصا.. ولهذا السبب يمكن استنتاج مسؤولية السلطات التنفيذية عن إفساد القاضي بمجرد تدخلها في ملف واحد من ملفاته. وحتى إن أحجم الجهاز التنفيذي عن التدخل في النزاعات المعروضة على القضاء فإن ذلك العمل السلبي لا يكفي وإنما تجب المساهمة الإيجابية في إصلاح القضاء وتذليل الصعاب التي تحول دون اضطلاعه بالدور المنوط به تنفيذا للالتزامات الدولية ونهوضا بالمسؤولية الوطنية.
2. أزمة بطء تتجسد في التراخي في فض النزاعات وعدم التصدي لها في الوقت المناسب مما يؤدي لتأخر صدور القرارات لإرجاء الحكم فيها دون لزوم، حيث دأب أغلب رؤساء المحاكم (مع استثناءات محدودة) على عقد دورات شهرية للنظر في أصل القضايا، على الرغم من انتفاء ما يمنع عقد جلسات أسبوعية وإخلاء سبيل المتقاضي على الوجه الذي سأقترحه.
3. أزمة غموض وتكتم تتجلى في تعطيل علنية الجلسات القضائية التي تتيح للرأي العام رقابة العمل القضائي ويتجسد هذا التعطيل في الحظر التشريعي للتسجيل والتصوير عند افتتاح الجلسات الجنائية المعتمد في الجلسات المدنية أيضا. ومن دواعي الأمل كون بعض القضاة طالب بإلغاء الحظر وإجازة نقل المحاكمات عبر الوسائط السمعية البصرية الذي بسطت فوائده في مقال: "الحكم السوي في مصالحة القاضي مع الصحفي" الذي يمكن الولوج إليه عبر محركات البحث.
4. أزمة تعليل تتجلى في غياب تسبيب القرارات القضائية وعدم احترامها للضوابط وهو نقص ينتج عن اللامبالاة الناجمة عن عدم الخشية من المحاسبة، وربما كان مرده ضعف المؤهلات المهنية لدى البعض. ومن تداعيات ذلك أن بعض القضاة لا يحرر قـرارته وإنما يعهد بالمهمة لكتاب الضبط وقد يتكفل بها المحامون الذين يمثلون الأطراف. وكثيرا ما تأخر تحرير الحكم بعد النطق به حيث توجد أحكام معلقة بعد نقل مصدرها إلى أماكن بعيدة وربما انتقل البعض، عفا الله عنه، إلى قاضي السماء دون أن يحرر أحكاما نطق بها.. وللتغلب على هذا النقص أقترح إلزام القضاة بتحرير قراراتهم في طور المداولات مما يسرع حركة القضايا ويفرغ مصدرها للتصدي لغيرها ويمكن أعضاء تشكيلات الحكم الجماعية من التداول حول الأسباب واستعــراض كل حيثية على حدة انسجاما مع الطبيعة الجماعية للقـرار الذي قد يخالف توجه رئيس التشكيلة.
5. أزمة تنفيذ تتجلى في تعطيل القرارات القضائية وبقائها حبرا على ورق لما تلقاه من مواجهة كثيرا ما بدأت بإحجام النيابة العامة عن مد يد المساعدة للتنفيذ الذي كثيرا ما عرقله وكلاء الجمهورية، سامحهم الله، بأمر المنفذين، شفهيا، بالتوقف في تنفيذ ما.
وقد فصلت هذه النواقص في الفصل الأول من مصنفي الذي آمل أن تكون سانحة المنتديات فرصة لكشف الغطاء عما يتضمنه من نقد لا يستقيم العمل البشري بدونه.
ثانيا / خطة الإصلاح القضائي المقترحة:
إثر نشر الكتاب أعلاه وبعد متابعة عمل القضاء الوطني على مدى ثلاثة عقود أعتقد أن أداء السلطة القضائية لم يتحسن وإنما استمر التردي، ويشاطرني في هذه الخلاصة المؤسفة الكثير من المطلعين على أوضاع القطاع، لذلك أبادر هنا بخطة عملية للإصلاح القضائي الذي يشكل، بفعل دوره المحوري في الدولة، أساس كل تقدم اجتماعي وتنموي.
وأقترح للتغلب على النواقص القضائية خطة خماسية الأبعاد تبدأ بالبعد التشريعي وتنتهي بتكريس البعـد الرقابي مرورا بالأبعاد التوجيهية والإجرائية واللوجستية.
1. البعد التشريعي: ويتمثل في وضع قانون نظامي لإصلاح القضاء يحظى بتأييد عام ويتمتع بالقوة القانونية لتعديل النظام الأساسي للقضاء والتنظيم القضائي والمساطر الإجرائية المدنية والجنائية وكافة النصوص المنظمة للجهاز القضائي ويجب أن ينم هذا القانون عن إرادة سياسية حازمة وأن يحظى بتأييد شعبي يخوله الصمود في وجه ذوي الأغراض الشخصية الساعين لاستمرار التردي القضائي الذي يخول البعض الاستفادة من مزايا غير مبررة على حساب تنمية البلد ومصالحه الحيوية ومنفعة غالبية مواطنيه.
2. البعد التوجيهي: ويتمثل في تنظيم تصفيات علمية وعملية يمكن بناء عليها توجيه القضاة الذين تتوفر فيهم الكفاءة العلمية والكفاية الأخلاقية إلى التخصصات التي تناسب مؤهلاتهم ولذلك الغـرض يمكن أن يسن قانون الإصلاح القضائي أربعة مسالك قضائية:
- مسلك قضاة المقاطعات،
- مسلك القضاة المدنيين،
- مسلك القضاة الجزائيين،
- مسلك قضاة النقض والتفتيش
وبناء على هذه التصفيات يوجه كل قاض عامل صالح لأحد المسالك ويتخصص في إحدى شعبتي القضاء الجزائي أو المدني وبدلا من تحويل القضاة بين الشعبتين بتعيين القضاة الجزائيين في مناصب مدنية والعكس يتعين أن يعين كل قاض تعيينا يتناسب مع شعبته ليعمل في مجال تخصصه وعندما يخرج من إطار الشعبتين ويثبت جدارته العلمية والعملية يصبح قاضي نقض وتفتيش مما يؤهله لأن يختار رئيسا أو مدعيا عاما لدى المحكمة العليا وفق مسطرة مدروسة.
على أن يكون العمل القضائي محل تفتيش مستمر يتبع طرقا ناجعة وعادلة للمحاسبة الدورية تتيح التخلص من مرتكبي الأخطاء الجسيمة والمتهاونين بالعمل ويمكن من تحفيز المجتهدين بناء على أسس موضوعية.
ويتعين أن يتيح القانون النظامي للإصلاح القضائي التخلي عن الذين لا تتوفر فيهم الشروط العلمية والأخلاقية.
3. البعد الإجرائي: ويتمثل في تعديل المساطر الإجرائية بالحد من الصلاحيات القضائية للنيابة العامة (التابعة للسلطة التنفيذية) وإلغاء محاكم الاستئناف التي لا تبلغ قضاياها نصابا سنويا يستغرق أوقات القضاة والاستعاضة عنها بدورات وجلسات متنقلة وإلغاء المحاكم الخارجة عن النسق القضائي (المحاكم التجارية ومحاكم الرق) التي لم ينعكس تخصصها على جودة المخرجات ودمجها في المحاكم العادية بأن تتشكل غرف تجارية تتألف على مستوى الدرجة الأولى من ثلاثة قضاة وخمسة على مستوى الاستئناف وسبعة على مستوى النقض وتخليص المحاكم من الأعضاء غير القضاة (المحاكم الجنائية ومحاكم الشغل) وإقرار دوائر حكم على مستوى محاكم الولايات والاستئناف والنقض تتشكل كل منها من رئيس يقوم بمهام الإدارة القضائية (تساعده كتابة ضبط رئيسية تنسق مع كتابات ضبط الغرف) تحال إليه محاضر الضبطية القضائية ويتصرف فيها ويكلف بناء على قرعة قضاة التحقيق بالاستجواب وإصدار الأوامر المناسبة في نفس اليوم ويتكفل بتهيئة الملفات المدنية والتنفيذ والتوجيه ويشرف على تحضير القضايا ويوقع استدعاءاتها الموجهة للأطراف ويلعب دور قاضي التنفيذ ولكنه لا يشارك في المداولات ولا في اتخاذ القرارات المتعلقة بالموضوع التي توكل لقضاة جالسين ويقوم بنفس الدور، الذي يقوم به رئيس محكمة الولاية ابتدائيا، رئيس محكمة الاستئناف ورئيس المحكمة العليا كل في درجته على أن تتألف كل دائرة ابتدائية واستئناف ونقض من شعبتي قضاة جالسين يحضر قضاة كل شعبة مرتين في الأسبوع على الأقل في اليوم المقرر لجلسات الأصل وفي اليوم المخصص للاستعجال ويقوم رئيس المحكمة (قاضي التهيئة) بإجراء قرعة حضورية بحضور القضاة والمحامين ويتوجه القاضي أو التشكيلة فور اختيارهما إلى قاعة الجلسات حيث تعرض القضايا ويتم التحقيق فيها ويستمع للمرافعات وينسحب القاضي الفرد للتأمل أو التشكيلة الجماعية للمداولة وتستمر دون انقطاع حتى تصدر قرارها وتحرره وتعيده لقاضي التهيئة تمهيدا لمتابعة الإجراءات ويتاح لتشكيلة الحكم المختارة أن تصدر قرارات تمهيدية أو ماسة بالأصل على أن تعيد القضية لرئاسة المحكمة في نفس اليوم بحيث لا يبيت الملف في عهدتها.. ومن مزايا هذه المسطرة، علاوة على سرعة البت وانسياب إجراءات الملفات، أنها تفوت على الأطراف فــرصة التأثير على القاضي أو القضاة (الذين لا يعرفون إلا في يوم البت) وتتيح للقضاة الحكم بتجرد. ولنجاعة هذه المسطرة يمكن أن يحد عدد الملفات المعروضة خلال كل جلسة وأن يعين نائب لرئيس كل تشكيلة يتكفل بالإدارة القضائية في حال غياب الرئيس.
4. البعد اللوجستي: يتمثل في توفير حواسيب وكاميرات تسجيل في قاعات الجلسات وآلات طباعة في قاعات المداولات وتكوين القضاة على معالجة النصوص بما يتيح لهيئة الحكم تحرير قراراتها وطباعتها على ملفات وورد fichier Word ينبغي أن تهيئها كتابات الضبط قبل كل جلسة.
5. البعــد الرقابي: ويقوم على تفعيل التفتيش الذي ينبغي أن يفرغ له عدد كاف من القضاة والخبراء القادرين على إجراء تفتيشات روتينية يتم التأديب والتنقيط بناء عليها.
وفي الختام، أنبه إلى أن النقاط المضمنة في هذه الخطة ليست مجرد تصور نظري غير مرتبط بالواقع وأن كل مكونة منها مبنية على أسباب يمكن تفصيلها في عمل لاحق مع أنها تبقى في مجملها إستراتيجية نظرية قابلة للتعديل والملاءمة، ولكن من الضروري والمؤكد أن يدرك الموريتانيون أن التحرك الجدي لإصلاح القضاء الموريتاني غدا ضرورة فإما أن يكون أو لا يكون.