ما أحوجنا لمطالعات فكرية هادفة تأخذنا بعيدا عن واقع معيش يوحي بجهل متفش وغفلة متأصلة في أعماق مجتمعنا المريض، ومؤلفات المفكر "مالك بن نبي” هي كتب قيمة تزخر بالأفكار والمعارف الهامة التي لا حصر لها ولا غنى عنها لأي أمة تبغي النهوض أو أي مثقف يهتم بتغيير واقعه ومحيطه.
في كتابه "شروط النهضة” يشبّه مالك العالم الإسلامي بمريض دخل صيدلية، فيعالجه السياسي بما ظهر من أعراض أمراضه السياسية، والفقيهُ بما ظهر من أعراض أمراضه العقائدية، فهو يتعاطى حبة هنا ضد الجهل وقرصا هناك ضد الاستعمار ويتناول عقارا يشفي من الفقر، ولكن لا خيط ناظمَ يذهب إلى أصل الأدواء ومبعثِها ليشتغل عليه بدل الانغماس في علاج الأعراض.
ويؤكد بن نبي أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها وليس العكس، فليس واجبا لكي ننشئ حضارة أن نشتري كل منتجات حضارة أخرى فذاك ممتنع كما وكيفا، فحتى يركِّب العالم الإسلامي حضارتَه في زمانه هذا وجب عليه أن يرجع إلى تلك الصيغة التحليلية التي تصنع كل ناتج حضاري:
ناتج حضاري = إنسان + تراب (مادة) + وقت
ومعلوم أن وجود المتفاعلات غير كاف لحدوث التفاعل في الاتجاه الصحيح المراد، إذ لا بد من تدخل مركِّب ما يؤثر في مزج العناصر الثلاثة..
إن هذا المركِّب ليس سوى الفكرة الدينية التي رافقت تركيب كل الحضارات خلال التاريخ.. فكما كانت الفكرة الإسلامية مركِّب الحضارة الإسلامية فكذا الفكرة المسيحية مهدت الطريق لحضارة الغرب، بالرغم من أن هذه الفكرة لم يُكتب لها أن تعمل وتؤثر إلا قرونا بعد ميلادها بخلاف الفكرة الإسلامية التي تزامن ميلادها وانخراطها في بناء حضارة المسلمين.
فميلاد الحضارة يبدأ بإخضاع الفكرة الدينية لغرائز الإنسان الفطري البدائي (عبر تنظيمها وليس القضاء عليها)، عند ذلك تتطور الحضارة وتنشأ مشاكل وضرورات جديدة في مسارها كنتيجة حتمية لإشعاعها وانتشار أفكارها، فتسلك منعطف العقل الذي يكون سلطانه على الغرائز أقل من سلطان الروح عليها.. ثم ما تلبث الغرائز أن تتحرر مع انكماش الفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية شيئا فشيئا إلى أن تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها، إذ ذاك يكون المجتمع قد دخل نهائيا في ليل التاريخ وتمت بذلك دورة الحضارة..
إن الإنسان قبل أن يتطلع إلى المستقبل كان لزاما عليه أن يحطم تلك الأغلال التي تكبح تقدمه ويصفي ثقافته من الأفكار البالية ومن عوامل الانحطاط، هذا ما أطلق عليه مالك بن نبي التحديد السلبي الذي يسبق التحديد الإيجابي الذي يصلنا بدوره بمقتضيات المستقبل.
بعبارة أخرى، يجب على الإنسان المتخلف أن ينفك عن الثقافة السائدة في عصر الانحطاط ويرسم معالم ثقافة جديدة تحدد له طريقا نحو التحضر.
وهُنا يشدّد مالك على الخلط الذي يقع بين الثقافة والعلم، فالثقافة تعني مجموع الصفات الخلقية والقيم المجتمعية التي يُلقّاها الفرد منذ ولادته في الوسط الذي وُلد فيه، إنها المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، إنها خصائص المجتمع التي يتساوى فيها العالم والفلاح لأنها تعبر عن تقاليدٍ وعواطفَ واستعدادات وأذواقٍ متناسبة متكاملة في مجتمع ما.
وليست الثقافة علما خاصا لطبقة من الشعب دون أخرى، فهي كالدم، يحمل كريات بيضاء وحمراء، تحمل أفكار النخبة والعامة في سائل واحد يغذي حضارة الأمة.
إن الثقافة لا علاقة لها بمرض العصر، بالتعالم وامتطاء العلم للصعود إلى البرلمان أو جعله آلة للعيش.
وبعد الحديث عن الثقافة التي تُعنى بالإنسان، يأتي مالك إلى مشكلة التراب فيرثي حال أرض الأمة التي ينقصها التصحر من أطرافها ويلتهم خضرتها.
ثم يتحدث عن العنصر الثالث، عن الوقت، الذي يشترك الناس في حظهم منه كما ويتباينون كيفا, فَوَجَب أن يتعلم الشعب قيمة هذا العنصر الذي يحدد معنى التأثير والإنتاج.
إن الزمن نهر صامت يعْبُر الأزل، نهر صامت حتى إننا ننساه أحيانا، ولكن كيف يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب.؟
أخيرا يؤكد مالك بن نبي أن للإنسان قيمتين: خامة طبيعية لا سلطان لأحد عليها من خارج الإنسان إلا أن يكون العطب داخليا، وقيمة خارجية صناعية اجتماعية تشكّل البيئة التي قد تحوي مجموعة من العراقيل التي لا تتيح لمواهب الإنسان أن تأخذ مجراها الطبيعي نحو النبوغ؛ فإذا انصلحت القيمة الأولى انصلحت الثانية تدريجيا عبر تكاثف عمل الأفراد على أنفسهم وسلوكهم، وبعبارة أخرى: أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم”.
يبقى أن أقول إن هذه الأفكار هي أفكار في متناولنا صالحة لزماننا وهي ما تزال قادرة على الإقلاع بنا لو قرأناها وفهمناها وعملنا بمقتضاها.
وسنقطف ثمارها حتما حين نؤمن بها إيمانا عميقا وتتحرك عواطفنا للتغيير من ذواتنا وبالتأكيد سيتأثر بها وبنا من حولنا من الناس.
وتكون قوة التأثير بالغة مع التوفيق للجهود وبذلها بحسب الأفراد والمجتمعات.