لم تستطع السنوات التي تمد ساعدها إلى قرن أن تمحو الفخامة والهيبة التي تنساب بين غرف وأروقة هذه الدار، وكلما شاخت ازدادت بهاء وتألقا وتمددت أكثر في ذاكرة الأجيال، إنها دار همدي ولد محمود أو الدهاه كما يسميه أهل أطار، ويبالغون في تأثيره المغناطيسي على قلوب الأجيال التي عاصرته والتي جعلت منه أميرا للقيم والنبل، حتى قيل في المثل السائر " تظحك ما بوك الدهاه"
يمثل الدهاه قصة نبل عابرة للمجتمعات والزمن، كاسرة للتصنيفات الضيقة للطبقية التقليدية في المجتمع، ويمكن اعتبار هذه الدار إحدى خالدات الديار في الأدب وذاكرة المجد والثقافة الحسانية، وهي إلى جانب دار ولد ابن المقداد في مدينة سين لويس السنغالية تمثلان التوأم الحضاري للنبل بين جنوب البلاد وشمالها.
تنسب الدار إلى مشيدها الثري الكريم همدي ولد محمود ولد أحمد مولود، الشنقيطي المفعم بقيم الفضل، والذي ولد في المدينة الغافية بين الرمال والنخيل/ شنقيط في العشرية الأخيرة من القرن التاسع عشر الميلادي.
كان فتى فارع القامة ذا هيبة مشهودة، اختار أن يضرب في مناكب الأرض بدل أن يبلعه النسيان، الذي يفغر منذ الأبد فاه للخاملين أو الراغبين عن صعود الرجل الراضين بالعيش بين الحفر.
بين مطارح الطموح ومضارب الآمال تنقل همدي، غادر مدينة شنقيط، كانت الطريق يومها أصعب آلاف المرات من الممر الجبلي المسفلت الذي كان بإرادة محمد ولد ابنو طريق الامل الثاني في البلاد.
في المذرذرة عمل همدي تاجر مواشي وجزارا، فتحت له مهنته هذه أبوابا هائلة نحو الثراء، يقول العارفون بمسيرة الرجل إن طريق ثرائه لم تكن مفروشة بالورود، لكنه قطعها على سلم تأسست درجاته على المثابرة والجد وعدم التسويف أو التكاسل، والصدقات المخفية التي فتحت له قلوب الفقراء أبواب الخير، عندما حلقت ليس بينها وبين الاستجابة سور ولا حجاب.
عاد همدي وأسس داره الشهيرة في أطار وخصوصا في حي "كرن الكصبة" العريق، يتألف البيت من مجموعة من الغرف المتصرمة تنفتح أبوابها الخشبية القوية على بهو واسع يمتد مع طول المنزل وتتقدمه أبواب مقوسة بمقاسات متساوية، قبل أن يمتد أمامها فضاء رحب يحيط به سور البيت العتيق.
تمتاز هذه الدار كغيرها من المنازل القديمة في أطار بأنها مبنية من الحجارة المقلمة، مما يعني أن تشييدها استغرق وقتا كبيرا وجهدا مضنيا من العمال الذي يتوقع أن يكونوا أجانب، حيث كان السنغاليون والماليون أبرز عمال المقالع وبناة المنازل الفخمة في عقود ما قبل الاستقلال.
ليس السميك في هذا المنزل أسواره وغرفه وباحتة الواسعة، بل إن سقف قيمه وتاريخه الجليل جعل منه معلمة خالدة في تاريخ آدرار والبلاد بشكل عامل، ولا ترتبط قيمة المنزل بنمطه العمراني ولا بنوعية البناء ولا بصبره لقرابة 80 سنة أو تزيد، وإنما تتعلق بذاكرة التاريخ وما شهد من أحداث مهمة، ومن وفود من قادة وأمراء وشخصيات بسيطة وعوام الناس.
في سنوات الجفاف أربعينيات القرن المنصرم وبعد أن أصبح همدي أثرى رجال الشمال الموريتاني، كان بيته مأوى القانع والمعتر، وكان يقيم موائد جدعانية كل ليلة، فإذا اجتمعت الوفود، أطفأ الأضواء مخافة أن يجد بعض الناس حرجا في أن يتعرف عليه الآخرون، كان الجوع يومها قد أخرج الكثيرين من بيوتهم، طلبا لكفاف من قوت، بعد أن أحرق الجفاف خضراء الزرع، وأغرز مدرار الضرع.
كان صاحب الدار همدي مع كرمه وتواضعه كثير الاعتزاز بنفسه، بعيدا من أي عقدة بسبب اللون أو العرق، واستطاع من النخب الآدرارية تحطيم كثير من ثوابت الطبقية، التي من المفترض ان لاتكون، ليكون المجتمع الآدراري بشكل عام أكثر مجتمعات البلاد مدنية وإنتاجية واتفتاحا.
في إحدى الأسفار المشهودة، كان الدهاه رفقة أمير آدرار ووفد من أعيان أطار في رحلة إلى اكليميم، استقبلهم القائد المخزني بكثير من الإكرام والاحتفاء ونال الدهاه نصيبا وافرا من اهتمام وتقدير الوفود والقبائل والمجموعات، تفتقت عبقرية أحد المستضيفين عن فكرة غريبة رأى فيها أعلى درجات إكرام وتقدير الدهاه، ولم يكن الأمر أكثر من سلسلة "شريف" تفاجأ همدي بهذه الهدية المختلفة، ورفضها بهدوء ولباقة، مفهما صاحبها بأنها ليست الطريقة الأمثل لنيل المكانة.
في منزل همدي أيضا انعقدت كبريات التحالفات السياسية، وتأسس وعي مدني، وتشكلت أولى إرهاصات السياسية، وقد كان همدي على سبيل المثال العنصر الأكثر فعالية في ترشيح الرئيس المختار ولد داداه لمقعد نائب مدينة شنقيط في برلمان 1946، كانت قصة تفاوض وإيثار سياسي غير مسبوق.
أخذ همدي على عاتقه إقناع النخبة السياسية والمجتمعية في مدينة بوتلميت بترشيح المختار ولد داداه – الذي كان راغبا في ذلك – نائبا عن الدائرة التي بدأت فيها مسيرة حياته، وإليها انتهت، غير أن أولئك رفضوا بشكل قاطع تسليم زعامة سياسية إلى ولد داداه، ولم يكن متاحا غير ترشيح ولد داداه من مدينة شنقيط، حيث تنازل السياسي أحمد ولد حبت بناء على طلب من الدهاه، وترشح المختار ولد داداه مدعوما من وجهاء واعيان الشمال وفي صدارتهم الدهاه، كان هذا الترشيح منعطفا أساسيا في مسيرة المختار ولد داداه، اختصر له الزمن والجهد في طريقه نحو الزعامة السياسية لعامة البلاد.
وطبعا لم ينس المختار جميل همدي وتوطدت العلاقات بينه وبين الرجل وأبنائه الذين كانوا وجوها مهمة في دولة الاستقلال وفي صناعة المشهد السياسي والمجتمعي في كثير من أنحاء البلاد، حيث كان من بينهم قامات سياسية معروفة مثل هيبه ولد همدي، ومصادر إشعاع معرفي وتنويري ونهضة ثقافية وإخاء وطني مثل القامة المعرفية السامقة محمد سعيد ولد همدي وغيره من الأحفاد الكرام الذين درجوا في ذلك المنزل البهي وكتبوا في ظلاله ألواح الكرامة والنبل سورا من المجد وآيات من الكسب الحلال والتربية القيمية التي أهلتهم لأن يكونوا قادة الرأي وقدوة المجتمع، وكيف لا ووالدهم " الدهاه"