في كيهيدي، حللنا ضيوفا على السيد الفاضل اعلِ ولد سيدي المهدي، رحمه الله. وهو أحد مؤسسي دولة الاستقلال؛ وتربطبه علاقات وطيدة بأسرتنا مذْ كان مترجما فوريا (أملاژ) مع قاضي امبود الفَقيه حامد ولد محمد محمود ولد بلاّل، رحم الله الجميع.
في كيهيدي، شاهدتُ لأول مرة “المدينة ” وأطوارها وأغوارها وشوارعها ومبانيها وسكانها باختلاف ألسنتهم وألوانهم…وكنت أسأل عن كل شيء : السوق، المحلات التجارية، النهر، القوارب، الدراجات الهوائية، النقود (لفرنك)، الخبز (امبورُ)، إلخ،،، و أكثر ما أدهشني طبق الأرز بالسمك الذي قدم لنا، والذي رفضت تناوله بشدة رغم محاولات أبي. لن أنسى ذلك الغداء وما دار حوله من حديث ممتع وطريف. سمعتُ الوالد يلاطفُ ويداعبُ صاحبه اعل ولد سيدي المهدي بقصة الشاعر ولد ابْنُ ولد احمَيدَن مع مريدي الشيخ أحمدو بمبه امباكي المعروف باسم “الخديم” في مدينة "طوبى" المحروسة، حين قال: يا شيخُ مَن أوصَيتُم بضيافتِى
عَرَجُوا بِإكرَامِى سَمَاءَ عُرُوجهِ إلى قوله خَلطوا طعامهم بحوت يابِس
وأنا أعافُ الحوت يوم خُرُوجِهِ ههه. و من كيهيدي، كان السفر بحرا الى مدينة “بكّلْ” السنغالية لمدة يوم وليلة على متن زورق مجهز بمحرك كهربائي، ويحتوي على مساحة ضيقة للركاب، ومخزن بسيط للأمتِعة، وقمرة قيادة، ومرحاض.
كنا 8 ركاب، وزادنا: "امبسكيت"، و "گرته"، و "التيشطار"، و مُد من "صايْنَه" (كسكس يابس يُبلُّ بالماء الساخن، مع تيشطار و دهن وملح خفيف.. ويا الله!).
ومن “بكل” عبرنا إلى الشاطئ الموريتاني في قارب طويل وضيق، مصنوع من جذع شجرة، ويقوده رجلان بواسطة مجاديف. وعندما وصلنا الضفة الموريتانية، استأجرنا عربة يجرها حصان الى سيلبابي، وحارسين مسلحين بسيوف وأسلحة نارية. معلومٌ أنّ منطقة "گيدماغة" هي المنطقة الوحيدة التي تلتقي فيها الدول ال3 : موريتانيا والسنغال ومالي؛ وهي منطقة وديان وعِرَة وغابات ضخمة تشكل ملاذا آمنا لقطاع الطرق والوحوش الضاريّة بما فيها “الفيل” و "السبع".
هكذا، كان الوالد يتحمّلُ بصبر وعزم وبمثابرة كبيرة مشقّةَ هذه الأسفار ذهابا وإيابا على مدى 3 سنوات للوصول في الوقت المطلوب الى محلّ عمله…معتبرا كغيره من معلمي اللغة العربية في ذلك العهد أنه جهاد في سبيل الله وجهاد في سبيل الوطن ودفاع عن الهوية وذود عن الكرامة…في سيْلبابي، وجدتُ نفسي وكأنني ولدت من جديد،،