كان من شيم العارفين بالله تعالى التكتم على كراماتهم والحرص على عدم نشرها للعموم باعتبارها تجربة ذاتية في مسار السالك الزاهد باتجاه الله، ولأن نشرها يعرضها للخضوع لضوابط ومعايير من سياق مختلف ومغاير، ولأنها أيضا في عرف القوم تحتمل أن تكون اختبارا أكثر من كونها تكريما، فقد كانت تخيفهم أكثر بكثير من سعادتهم بها، ثم إن نشرها كذلك يشكل استعراضا لقدرات استثنائية قد تكون غايته البحث عن سلطة أو مال أو نفوذ، وسلوك القوم وديدنهم هو الزهد في الدنيا باعتبارها دار عبور وابتلاء.
ومع حرصهم على التكتم فقد لجأوا في تعابيرهم إلى الرمز والتجريد، وقد ظلت الرمزية رديف التصوف دوما، لذلك فإن حمل كلامهم على حرفيته وممن هم خارج التجربة أمر لا يناسب مقامات هؤلاء ويدفع إلى إساءة فهمهم، وقد عانى منه المتصوفة الأوائل ودفعوا ثمنه باهظا وفي مقدمتهم الشهيد الحسين بن منصور الحلاج.
لقد آن - حفاظا على التصوف - أن ندرك أنه ليس بشطحات ولا مسلكيات شاذة، بل هو في حقيقته كدح إلى الله وتجربة إنسانية غايتها الله ورضوانه، وكل تجربة غايتها المال أو النفوذ في الدنيا تشكل نقيضها والقطيعة معها.
"وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ."(الآية)