الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فإنه كثيرا ما يقال إن المنطقة الشرقية من بلادنا موريتانيا تشتهر بانتشار محاظر القرآن وكثرة حفظته وهو أمر لا يخلو من الصحة مع ما فيه من المبالغة، فالمناطق الأخرى فيها حفظة القرآن أيضا، وإن كان هناك في المناطق الشرقية حفظة كثر، وأسر ومجموعات يكثر في أبنائها حفظ القرآن الكريم، ففيها أيضا أسر ومجموعات ليست بالقليلة قل أن تجد من بين أبنائها حافظا للقرآن، وهو أمر ليس بالجديد وما زال الأمر على ما هو عليه، كما أنه يشيع بين الناس أن المنطقة الغربية تختص بالشعر والنحو وذلك لا يخلو من الصحة مع ما فيه من المبالغة، فهناك في تلك المنطقة من لا يعرف من الشعر إلا اسمه ولا من النحو إلا وسمه، وفي المناطق الأخرى من يهتم بالنحو ومؤلفات أهل ولاتة تشهد لذلك؛ فأول شروح كتب النحو في البلاد عموما موجودة فيها ولأبنائها، وفيهم أيضا من يهتم بالشعر لكن ليس أولوية عندهم!.
وهنا في هذه السطور سأحاول أن ألقي نظرة على نتف من أخبار محاظر القرآن وسنده في تلك المناطق، فنقول وبالله التوفيق إن تلك البلاد ليس هناك ما يفيد بأنه كانت فيها مراكز علمية لها شأن قديما، بل ويمكن قول ذلك عن عموم الأراضي الموريتانية، فلم يصل إلينا حسب ما هو متداول بالتوثيق شيء قبل بداية القرن العاشر بعد سقوط آخر قلاع الإسلام في الأندلس، ومن فضل الله أنه بعد أفول نجم تلك الحضارة التي ذاع صيتها وأضاء نورها العلمي كثيرا من البقاع الإسلامية، بزغ للأمة ضوء علم آخر في عصر ظلام قرون الانحطاط الدامس، بزغ ذلك النور في صحار قاحلة ومن وسط فيافي بلاد السيبة، حيث لا مظنة له، إذ كيف يعقل أن يشع نور العلم من على مرتفعات الكثبان الرملية المتحركة، ومن على ظهور العيس السائرة في البيداء الشاسعة، ومن تحت الخيام في الوديان المتشعبة، ومن تحت ظلال الأشجار الوارفة، قد لا يعقل ذلك من هو تليد في مراكز المدن، وقد لا يعقله أيضا من هو أصيل في بواد غير تلك البوادي، لكن ذلك وقع حقيقة لا مجازا ويقينا لا خيالا، وأظن أن هذا الموضوع وهو سطوع نجم العلم بعد سقوط الأندلس في الصحاري الموريتانية يحتاج إلقاء الضوء عليه من الباحثين!
ولنعد إلى المناطق الشرقية وموضوع القرآن وسنده:
فالمدن الموريتانية القديمة مثل أوداغست وكمبي صالح لم ينقل إلينا من أخبارها العلمية شيء ذو بال، فآوداغست قد ذكر البكري في كتابه المسالك والممالك: أن بها مساجد آهلة في جميعها بالمعلمين للقرآن، وقبله ذكرها الرحالة ابن حوقل في كتاب الأرض أو المسالك والممالك وقال إنها أشبه أرض الله بمكة المكرمة، وقد ذكر البكري ذلك عن مدينة أخرى يقال لها تاد مكة وهي ربما من أعمال غانة لكن لم نر منها أثارة من علم.
وربما قامت على أنقاضها أو قريبا منها مدينة تكبه ولم يكن لها كبير شأن أيضا؛ مع أن الأستاذ سيداتي ولد الشيخ المصطف الأبييري نقل عن المصطفى بن العربي الأبييري -المتوفى في النصف الأخير من القرن الثالث عشر- "أن إجمان عمروها في أواخر القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر بعد هجرتهم من لبراكنة، وأن أبناءهم كانوا يدرسون القرآن في مجموعات إديبسات المجاورة لتكبة، وتذكر بعض الحكايات أن الطالب الصديق الجماني 980\1073، ارتحل إلى المغرب وأخذ من هناك بعض العلوم، ويقال إنه التقى بناصر الدين الدرعي وأخذ عنه لكن لم يصلنا له سند علمي يثبت تلك الحكايات أو يسندها، بل إن حفيده محمد بن الحاج عثمان بن الطالب الصديق أخذ الأسانيد عن بلعمش العلوي الولاتي كما نقل ذلك البرتلي.
وأما كمبي صالح فقد ذكرها البكري باسمها غانة وذلك قبل أن تؤول إلى بني صالح وذكر أنها مدينتان إحداهما للمسلمين، ومدينة المسلمين بها عدة مساجد ولها أئمة ومؤذنون وفقهاء وأهل علم، وقد ذكر ابن حوقل أن المسافة بين غانة وآوداغست مسيرة أحد عشر يوما وهنا ربما قصد عاصمتها آن ذاك كمبي صالح، ولم تصلنا منها أيضا أثارة من علم.
أما ولاته فقد ذكر ابن بطوطة في رحلته في النصف الأول من القرن الثامن أن أهلها يكثر فيهم القرآن، ومع ذلك فأول سند ذكر لهم هو سند بلعمش العلوي "ت 1107" الذي أجاز به محمد بن الحاج عثمان الجماني "ت 1098"، وبلعمش يبدو أنه أخذه عن شيخ له سماه بالحاج سيدي محمد، ثم هناك سند محمد الأمين بن اطوير الجنة الحاجي الذي نقله عنه ابن امبوجة العلوي وهو سند السبع، ويلاحظ أنه أتى بعد سند التنواجيوي لأن صاحبه توفي في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، لكنه أيضا لم يصل إلينا إلا في التراجم.
وهذان السندان حتى الآن لم يعد لهما وجود في المحاظر ولا ندري متى توقفا بالضبط، إلا أنه حسب ما لدي من المعلومات وبعد جمع قدر من الأسانيد من مختلف المحاظر وحسب ما ذكر الدكتور سيدي محمد ولد عبد الله في رسالته للدكتوراه التي بعنوان "السند القرآني الشنقيطي" ليس في المحاظر الموريتانية غير سند سيدي عبد الله بن أبي بك التنواجيوي "ت 1145"، وهو السند الذي أتى به من المغرب عن سيد أحمد لحبيب الفلالي اللمطي "ت1166".
ومن المهم أن ننتبه إلى أن هذا السند لا يمر بأحد الثلاثة المبرزين والذين لهم قصب السبق في هذا الميدان وهم أساطينه المعول عليهم ابن الجزري والشاطبي والداني، وحسب ما يشاع الآن هم الذين يدور عليهم السند القرآني في هذا العصر. والعلم عند الله.
وحسب ما نقل الأخ سيدي محمد عبد الله عن الباحث المغربي عبد الهادي احميت صاحب موسوعة مقرأ نافع فإن هذا السند الذي لدينا لم يعد أيضا موجودا في المغرب من قرن ونيف، بل الموجود هو سند المشارقة الذي مداره على الثلاثة، مع أن وثائق أسانيد المشاييخ الذين عندنا في السند موجودة بدور المخطوطات المغربية حسب قول الدكتور سيدي محمد.
ثم تدرج السند القرآني من التنواجيوي إلى تلامذته، وحسب ما في الأسانيد المتداولة في المحاظر التي اطلعت عليها يدور على أربعة هم:
- ابن عمه سيدي محمد بن باب التنواجيوي،
- ومحمد مولود القلاوي،
- والطالب صالح قيل قلاوي، وقيل بوصادي، وهو الذي عن طريقه سند السبع الذي اشتهر عند أهل ولاتة وخاصة أيام العلامة محمد المختار بن محمد يحي الفقيه،
- والطالب أعمر الملقب الكنزي، وسنده هو الأكثر انتشارا، ولم أجد من له به معرفة،.
ثم من الأربعة انتشر في عموم البلاد الموريتانية، ومن اللافت أن الأسانيد لم ترد إلا عن طريق هؤلاء الأربعة، مع أن البرتلي ذكر له عددا آخر من التلاميذ وهو أمر وقع لكثير من المشاييخ، على سبيل المثال الشريف محمد فاضل بن المداني لم ينتشر سنده إلا عن طريق تلميذه الشيخ محمد الأمين بن الإمام القلاوي ومنه انتشر انتشارا كبيرا؛ حتى إن أغلب المحاظر الآن يمر به سندها، فهو عند محظرة أهل سيدي يحيى في لعصابة، ومن المهم الانتباه إلى أن كثيرا من الأسانيد بواسطة أو بغير واسطة سقط منها بعض رجالات السند سقوطا فجا حيث سقط ثلاثة متتاليين!!،
وقد نقل الأخ سيدي محمد في رسالته أحد تلك الأسانيد التي فيها ذلك الخطأ الكبير، وقد نبهته على ذلك!
ومنها انتقل لمحظرة أهل ديدي، ثم محظرة العون في نواكشوط عن طريق شيخها محمد الأمين ولد الحسن، ثم هو عند محظرة أهل الطالب ولد اعلي، ومحظرة سيدي محمد ولد اعلي بوها الناصري، كلتاهما في الحوض الغربي، وهو عند محظرة أهل البشير في ضواحي نواكشوط الآن.
وللتنبيه فإن سند أهل البشير ساقط منه بعض رجالات السند أيضا!
ثم هو أحد سندي محظرة أهل أبات في تكانت وقد نبهت أحد الزملاء وهو أحد أبنائها أن سندهم فيه سقط!.
ثم هو أحد سندي محظرة أهل الشيخ ولد دهمد في تمبدغة وسندها الآخر عن طريق الشيخ أحمد بن محمد الأمين الجماني.
وهو أحد أسانيد محظرة أهل أحمد معلوم في أم كفه عن طريق شيخها سيد امحمد ولد أحمد معلوم السباعي، وسندها الآخر عن طريق الشيخ أحمد بن محمد الأمين الجماني عن طريق تلميذه سيداتي ولد الحاج الشيخ.
و للتنبيه فقد رأيت سندا بخط شيخها إطول عمرو بن أحمد معلوم ساقط منه بعض رجالات السند! وكذلك أيضا الشيخ أحمد بن محمد الأمين أخذ عنه جم غفير من الطلبة ولم نطلع حتى الآن على سنده إلا عن طريق لتميذه سيداتي بن الحاج الشيخ.
وقد بقيت الساحة لسند سيدي عبد الله التنواجيوي وحده من أول القرن الثاني عشر وحتى آخر القرن الرابع عشر.
مع بدايات نشأة الدولة الحديثة جاء القاضي محمد بن محمذ فال الأبييري بسند العشر من الزيتونة فأخذه منه الإمام الأكبر مفتي الجمهورية بداه ولد البوصيري رحمة الله عليه.
كان القرآن في تلك المناطق يدرس رسمه بالمعدود وهو مجموعة تآليف غالب الظن أنها لا يجمعها إلا علم الرسم إذ ليست لشخص واحد، وتختلف المناطق في ذلك؛ فبعض المناطق يسمونه المعدود كما هو شائع عندنا في الحوض، وبعضهم يسميه القواعد، وبعض الناس يذكرون من تلك التآليف حملة المسومي وحذف الجماني، وربما أغلبه نظم الخراز، وهي تآليف في مجموعها تعتمد على العد الاستقرائي وليس التقعيد، حتى جاء الطالب عبدالله الجكني نسبا البوصادي مسكنا فاعتمد التقعيد واختصرها في نظمه المتداول الآن في المحاظر، وهو نظم وضع الله له القبول فأخذ به الناس وتركوا ما سواه، وقد حدثني جدي لأمي حمودي بن محمد عبد الله قال إن آخر من أخذ الإجازة بالمعدود ممن له به معرفة محمد الهادي بن الإمام القلاوي شيخ محظرة أهل الإمام بعد والده الشيخ محمد الأمين، وحدثني الأخ الأستاذ محمد مفتاح بن خويا إن أحد الوالدين وهو جده سيدي محمد بن خويا كان ممن أخذ الإجازة بالمعدود على الشريف محمد فاضل بن المداني، فلما عاد ابنه محمد أحمد من محظرة أهل الإمام وقد درس رسم الطالب عبد الله درسه عليه وحذق فيه وبدأ يدرسه لطلبته، وقد كان ممن له همة عالية وحرص على العلم وخاصة القرآن وعلومه!.
ومع أن المحاظر عندنا تعتمد في الرواية كما قدمنا سند المغاربة المنقرض خارج بلادنا والذي ليست له علاقة بأعلام علوم القرآن المشهورين كما سبق إلا أنهم في الدراية يعتمدون كلية على كتب الداني وما تفرع عنها وكتب الشاطبي وابن الجزري!.