تقف البلاد اليوم على أرضية زلقة بعد أعوام من المعضلات المستعصية؛ تسليم بالكاد يكون سلسا للسلطة بسبب ما تبعه من مشاكل ، كوفيد وفاتورته وتبعاته الكارثية ، الحرب في أوربا الشرقية وتداعياتها ، فضلا عن مشكلات ضعف الحكامة الرشيدة في ظل تراخي القيمين على الشأن العام في الحرب على الفساد ، وتعثر العملية التنموية التي بدا أنها ما زالت حلما بعيد المنال بكل أسف . إن تيهنا وضياعنا السرمدي منذ نيف وستين عاما في رحلة بحثنا الدؤوب عن تثبيت أركان بلد يزاحمه جيرانه بكل الأساليب الناعمة و الخشنة ؛ ـ يتغول عليه بعضهم ، وينتقص منه بعضهم ، ويصمه البعض الآخر بشتى المثالب ، وهويته متذبذبة ، وكيانه هش ـ هي رحلة مثيرة للاستغراب والتعجب لا الإعجاب. إن أخطر داء هو تراكم الخيبات و اليأس ، والاستسلام لمجهول المقادير دون بذل جهد ، وترك الأمور للصدف والعشوائيات . إننا محكومون بنمط من التسيير نسجته قوى رجعية شارك في تشكلها تزاوج الأحكام العسكرية مع بداوة الانتماء ، والعصبيات القبلية المقيتة ، وديمقراطية المال المشبوه ، فضاعت الكفاءات ، وضاعت العدالة ، وضاع معها حلم العملية التنموية برمته. إننا نحشو حكوماتنا المتعاقبة بأكبر عدد ممكن من عديمي الخبرة والمردودية ربما إمعانا في إغاظة الراحل فولتير الذي كان يقول إن ( أفضل حكومة هي تلك التي يوجد فيها أقل عدد من الأشخاص عديمي الفائدة) ، لكن أليس هو القائل أيضا ( من الخطير أن تكون على حق عندما تكون الحكومة على خطأ؟) إنها معضلة حقيقية كما ترون. ليس نقص وانعدام الكفاءات هو الخطر الوحيد الذي نواجهه ، بل إن البيروقراطية الإدارية هي أخطر الآفات وأشدها فتكا ، لأنها قادرة على شل كل جهود الغيورين في الجهاز الحكومي . قبل أشهر حكى لي أحد الإخوة من الثقات عن حديث دار بينه مع مسؤول رفيع يتبع كمرؤوس له في السلك الوظيفي حيث كانا معا في رحلة عمل للخارج. فحوى المحادثة أن هذا المسؤول ؛ مرؤوسه قبل أعوام كان يدير وزارة المياه والصرف الصحي وكان ككل الموريتانيين ممتعضا من واقع عاصمتنا المزري خاصة في فصل الخريف حيث تنتشر البرك وتغرق الكثير من البيوت وتتشرد مئات الأسر من عدة مقاطعات في العاصمة، وتكثر الأمراض المصاحبة لهكذا كوارث ، وانصب اهتمامه على إيجاد حل لمشكلة الصرف الصحي في مدينة نواكشوط. عكف الوزير بروح متصوف وجهد جهيد على مراجعة المكاتب الدولية المختصة في هذا المجال وبعد أشهر كان بحوزته ملف مكتمل عن مشروع صرف صحي للعاصمة قابل للتنفيذ فور التصديق عليه من طرف الجهات العليا . حمل الوزير الملف إلى رئاسة الجمهورية واستمر في مراجعة الرئيس آنئذ في الملف من حين لآخر ، كان مستغربا من بطء الإجراءات ومرعوبا خشية ضياع جهده في وحل البيروقراطية الآسن. بعد أشهر أخرى وإلحاح من الوزير انزعج الرئيس وأقال الوزير المذكور وتم إرساله سفيرا في إحدى دول الجوار ، لقد كان محظوظا حقا لأنه نجا من وضعه في المرآب "كراج" كما يقال ، ولكنه خسر مشروعه الطموح وخسر البلد بخسارته الشيء الكثير ، هل يمكنكم أن تخمنوا سبب فشله في الحصول على موافقة الرئيس؟. لقد علم وزيرنا المقال (حراك أكوم) بعد ذلك أن إثنين من أقارب الرئيس كانا يضغطان بشدة ليحصل كل منهما على تمثيل الشركة التي ستتولى تنفيذ المشروع ، ويبدو أن أيا من كفتيهما في الجهاز البيروقراطي لم تستطع أن ترجح بالكفة الأخرى فمات المشروع قبل أن يولد . فيا للعجب ! إن الفساد في بلدنا مع الأسف يكتسب مناعة أكثر مع كل نظام جديد ، ولا يمكن بحال من الأحوال للنظام الحالي أن يوهم الموريتانيين بأنه قدم شيئا يذكر في مجال محاربته. لقد دخل البلد في حالة ركود منذ أعوام في شتى المجالات ، لا شيء يمكن تسويقه للمواطن اليوم في أفق الاستحقاقات المحلية المقبلة سوى اللعب على وتر الحزازات القبلية ، والحساسيات البينية ، والدفع بأباطرة الوجهاء والمفسدين إلى صدارة المشهد الانتخابي من أجل كسب بعض النقاط هنا وهناك. ربما تكون تصريحات الأمين العام للرئاسة في الحوض الشرقي أكبر دليل على استمرار النهج الكهنوتي المقيت حيث تعهد مشكورا بتعويض كل من لم يسعفه الحظ في نيل الترشيح عن حزب الانصاف وتلك لعمري مبالغة من الانصاف في الإنصاف. يبدو إذن أن الترشيح عن حزب الانصاف حق لجميع السائرين في فلك السلطة الحالية لذا كل من لم يتم ترشيحه منه سيقع على عاتق الحكومة ترضيته ، ويكفيه لنيل ذلك أن يكون قد عقد النية الصادقة أو الكاذبة لهذا الترشيح فحسب. وبعيدا عن السقوط في فخ إرهاب البلاغة التي قال عنها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو "البلاغة هي إنجاز السلطة الأخير " ، ربما يكون قرار زيادة الرواتب الذي تم الكشف عنه في خطاب الرئيس بمناسبة عيد الاستقلال اليوم جديرا بالتقدير ، ولكن علينا أن لا ننسى أن التضخم وغلاء المعيشة عرف مستويات مرعبة لم تواكبها الرواتب الهزيلة منذ أزيد من ستين عاما إلا كمواكبة سلحفاة لقطار سريع. من نافلة القول أنه على الصعيد الخدمي والصحي تتعثر الأمور بشكل لا يمكن أن تخطئه عين الناظر ، لقد كان الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز ـ على علاته ـ حاضرا ومتابعا بشكل شبه يومي لمجريات أمور الدولة وشؤون الحكم ، وكان يتابع كل النواقص والاحتياجات الضرورية في المستشفيات ؛ وخاصة الانكلوجيا والقلب . سيدي الرئيس هل تعلمون أن هذين المستشفيين عانيا من الإهمال ونقص اللوازم والصيانة ؟ هل تدركون حجم المأساة عندما نقصر في إنقاذ حياة مريض ، أو نتسبب ـ لا سمح الله ـ في تأخير شفائه؟ سيدي الرئيس إن بطانتكم مع الأسف لاتريد لنا ولا لكم خيرا ، لذا لن تساهم في نجاح برنامجكم بالشكل المطلوب ، ومن باب أحرى أن تكون قادرة على تجنيبكم داء العمى عن البجع الأسود الذي كان يسميه الراحل محمد يحظيه ولد ابريد الليل ب"المجهول" .