كان المؤسِّسون دعوا للاجتماع في الكويت عام 1986م لمناقشة النظام الأساسي ثم إقراره بعد تعديل ما يتطلب التعديل، وكان الحضور مكثّفًا، لم يكد يعتذر إلا من قهرته الظروف أو أقعده المرض، وكانوا صفوة من رجالات الأمة المعنيين بأمرها، المشغولين بهمومها، حتى قال لي شيخنا الغزالي وعينه تذرف الدموع: جزاك الله خيرًا، لقد جمعت حكماء الأمة في هذا المكان، وقلما يجتمعون، وحمَّلتهم الآن المسؤولية الدينية والتاريخية، لينهضوا بواجبهم، ويقوموا بدورهم.
وكذلك قال شيخنا الشيخ عبد المعز عبد الستار: كنا نسمع عن حكماء صهيون، أو مشيخة بني إسرائيل، الذين اجتمعوا يومًا لينظروا في مصير قومهم، ويقرروا ما يجب عليهم لمستقبلهم، ويحدِّدوا علاقتهم بغيرهم، وها نحن أولاء اليوم نرى مشيخة المسلمين أو صفوتهم يجتمعون، لينظروا في مصير أمتهم.
قلت للشيخين: لا داعي لأن نُسرف في التفاؤل، وعلى كل حال، فإن لقاء المؤمنين لا يثمر إلا خيرًا، وخصوصًا إذا اجتمعوا لهدف واضح، ومنهج بيِّن، ولم تكن لهم أغراض دنيوية، أو مصالح شخصية، إنما جمعهم حب الله ورسوله، والانتصار لهذا الدين الذي يشكوا إلى الله أبناء عقوه، وأنصارًا خذلوه.
محاولة تأجيل الاجتماع التأسيسي:
وكان بعض الإخوة الحضور -لأغراض خاصة- يريدون تأجيل هذا الاجتماع الحاسم، وقال لي أحدهم: ما وجه الاستعجال -يا شيخ يوسف- في أمر خطير كهذا؟ وما الضرر لو أخَّرنا بضعة أشهر حتى يزداد نضجًا؟
وكنت رئيس الجلسة، فرفضت الاقتراح بحزم وحسم، وقلت: لقد مضت عدَّة سنوات منذ اقترحت إنشاء هذه الهيئة في الكويت، حتى تغيرت الأحوال عما كانت، وانخفض سعر البترول بعد ما كان مرتفعًا، وهذا ليس في صالحنا، ولقد ناقشنا النظام الأساسي حتى مللنا، ولا بد لنا من أن نحسم أمرنا، وقد قال تعالى: {وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقد عزمنا وتوكلنا على الله، {وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُ} [الطلاق: 3].
إقرار النظام الأساسي:
وانتهى الاجتماع بإقرار النظام الأساسي، بعد تعديلات طفيفة عليه.
وقد حرصنا في نظامنا الأساسي على: أن تكون هيئتنا هيئة خيرية محضة، كل همّها عمل الخير، وليست هيئة تبشيرية أو دعوية في أساسها، وإن كان الدافع الأول من إنشائها هو الحملة التنصيرية الكبرى على المسلمين.
كما حرصنا على أن نُبعد الصبغة السياسية والجهادية عن الهيئة، ضمانًا لحُسْن أدائها لعملها بعيدًا عن المؤثرات السياسية وتياراتها المتناقضة، وهو ما يعرضها لخصومات وصراعات تضرها ولا تنفعها.
اعتراض الدكتور أحمد الملط:
وأذكر أن بعض الإخوة، ومنهم الأخ الكبير الدكتور أحمد الملط نائب المرشد العام للإخوان في مصر رحمه الله، وقف يعترض بشدّة، ويقول لي بوصفي رئيس الجلسة، وصاحب الفكرة: كيف تحذف السياسة من الإسلام يا شيخ يوسف؟ أتريدون إسلام الأضرحة والموالد، الذي يبارك الأنظمة الفاجرة، ويسير في ركاب الطغاة من الحكام؟ ألست أنت الذي كنت تعلّمنا: أن الإسلام عقيدة وشريعة، وعبادة ومعاملة، ودين وسياسة، وصلاة وجهاد؟
قلت: يا دكتور أحمد، نحن لا نؤمن بتجزئة الإسلام، ولا بحذف السياسة أو الاقتصاد أو الجهاد منه، ولكنا نؤمن بالتخصص، ونحن متخصصون في عمل الخير على كل المستويات، وعن طريق هذا الخير نرقى بالناس، حتى نمكنهم من العمل في السياسة والاقتصاد والدعوة والجهاد، بعد أن نهيئ الخبز للجائع، والكساء للعريان، والدواء للمريض، والكفالة لليتيم، والمسكن للمشرد، والعمل للعاطل، والتدريب للعامل، والمدرسة للأمي، والكفاية للأسرة...
وهذه أمور تحتاج منا إلى جهود وأوقات وأموال وعقول، وطاقات بشرية مدربة، وكل هذه لا نملك منها إلا القليل، أو الأقل من القليل.
هذا هو عمل الهيئة الذي ينبغي أن نتفرغ له ...
أما السياسة والجهاد وغيرها، فلها رجالها، ولها مجالاتها، وقد حضّنا القرآن على رعاية التخصُّصات، وسدّ الثغرات المختلفة، وعدم توجيه الطاقات كلها في اتجاه واحد وإغفال ما عداه، وفي ذلك جاء قوله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} [التوبة: 122].