السفر إلى الصين/ محمدفال ولد بلال

كانت رحلتي إلى الصين (مايو 1994) من أهم وأسعد الأحداث التي عشتها خلال 12 عامًا في إدارة الحزب الجمهوري الديموقراطي الاجتماعي. يوم أكد لي الأمين العام للحزب، الأخ العزيز بلاّه ولد مگيّ (حفظه الله) خبر الذهاب إلى الصين في مهمة تدوم 10 أيام، سعدتُ جدًا لدرجة أني لم أصدق. أنا في الصين؟ هل يمكن؟ مستحيل! قضيت أسبوعا كاملا في تحضير السفر، وأكوام الذكريات تتزاحم في ذهني: الشباب، الثورة، الرفاق، الحركة الوطنية الديمقراطية، حزب الكادحين، المظاهرات، الاضرابات، الكتيّب الأحمر، الثورة الثقافية، إلخ..

كنا 3 أعضاء في الوفد: بلاّه ولد مگيّ، ومحمد ولد الحَيمر (رحمه الله)، و المتكلم.

بعد استعدادات مكثفة، حان يوم السفر. حضرت إلى المطار مندفعا ومتحمسا قبل الموعد بثلاث ساعات أو أكثر. وكنت بالتأكيد أول من أتم الإجراءات، وأول من صعد إلى الطائرة. جلست أمام كوة لأستمتع بالنظر إلى الخارج. كانت السماء صافية وجميلة، والجو معتدلا، والرحلة هادئة ومريحة. بتنا في باريس. وعلى غير عادتي، لم أخرج في تلك الليلة، ولم تجذبني شوارع ومقاهي مدينة "الأنوار". كان قلبي بالفعل في مكان آخر، في بكين. وفي الصباح الباكر، أقلعت بنا الطائرة مباشرة من مطار "شارل ديغول" إلى بكين. وبعد 9 ساعات و 9 دقائق، وصلنا مطار "داشينغ" الدولي.

كان في انتظارنا لدى سلم الطائرة وفد رفيع المستوى من الحزب الشيوعي الصيني. رافقنا إلى صالة الشرف بالمطار حيث وجدنا استقبالا رسميا حارا، قبل أن نتوجه معا صوب المدينة. كان كل شيء فاخرا وعظيما: طرقات واسعة، وشوارع جميلة، وسيارات فخمة، ودراجات رائعة، وفندق 5 نجوم، وأجنحة ممتازة… بعد ساعات قليلة من الراحة والاستجمام والاسترخاء، بدأ تنفيذ البرنامج الرسمي للزيارة بعشاء مع وفد من قيادة الحزب. ولن أتعبكم بتفاصيل ما تم خلال تلك الأيام من لقاءات واجتماعات وزيارات ورحلات جمعت بين السياسة والثقافة والسياحة. الناس في الصين يعملون الليل والنهار، لا يكلّون ولا يملّون.

تضمن البرنامج زيارة ميدان "تيانانمين"، وضريح "ماو تسي تونغ" و"المدينة المحرمة" في العاصمة بكين. و زرنا "السور العظيم" الذي يزعم البعض أنه البناء البشري الوحيد المرئي من الفضاء، وهو أمر مهيب للغاية. ثم اتجهنا جوا إلى "شنغهاي"، المدينة المعاصرة، وانبهرنا بجسورها فوق البحر، وفي البحر، وتحت البحر، وناطحة السحاب المعروفه "برج جينباو"، ومتحف شنغهاي حيث لا يزال التراث الثقافي والفني للصين محفوظًا. وكانت وجهتنا الثالثة هي مدينة "نانجينغ" التي تكشف عن مناظر جبلية وبحيرات رائعة، وبها الفيلسوف "كونفوشيوس"، و متحف "شو أين لاي"، وضريح القائد الصيني البارز "صن يات سن" (زعيم ثورة 1911).

.

من أول يوم، لاحظ الصينيون من خلال الأسئلة التي أطرحها، والتعليقات التي أدلي بها أنني مختلف عن أعضاء الوفد الآخرين. وتبيّن لهم أنني من أنصار الثورة الصينية (1949)، ومطّلع على تاريخ الحزب الشيوعي الصيني اطلاعا واسعا. ومع مرور الوقت، أدركتُ أنّ أسئلتي تحرجهم حرجا كبيرا إلى درجة أنهم كانوا يتجنبون الاقتراب مني. ولاحظتُ أنهم لا يعرفون شيئا عن الموضوعات التي أسألهم عنها. لا يعرفون شيئًا عن "نورمان بيتون"، و"المقالات الثلاثة الأكثر قراءة"، و"انتفاضة فلاحي الهونان"، و"المسيرة الكبرى"، إلخ… أيقنتُ يومذاك أنني في صين جديدة لا مكان فيها لأطروحات الثورة الماوية. هذه صين "دنغ اتشايو بينغ"؛ صين حديثة - بعيدة عن المثالية والأوهام - تشق طريقها بين الاشتراكية واقتصاد السوق بشكل واقعي وملموس.

اكتمل برنامج الزيارة بخير. ودّعنا الوفد الرسمي في باحة الفندق. وقررنا أن نركن إلى الراحة قليلا، ثم نخرج لشراء بعض الحاجات، ولكن في الأثناء جاءنا أحد المرافقين واقترح علينا الذهاب في الصباح الباكر لزيارة محطة قطار حديثة تم افتتاحها منذ أيام فقط. ناقشنا الموضوع بسرعة، وقررنا عدم الذهاب على اعتبار أن الزيارة الرسمية انتهت. وكنا صراحة في أقصى ما يمكن من التعب والإرهاق، وبحاجة إلى الراحة. وكنت أنا المكلف بإبلاغ الأصدقاء الصينيين بالاعتذار؛ ولكن كيف أبلغهم؟ من غير الوارد أن أقابلهم بالرفض الصريح. لا بد من إيجاد سبب وجيه للاعتذار. ما هو؟ بداهة، لم أجد سببا معقولا. ولذلك، قلت لهم مكرها: "نعم سنزور المحطة. وموعدنا غدا!

ذهبت ألى غرفتي و بتُّ طوال الليل أفكر في المسألة. بدا لي أن "وعكة صحية مفاجئة" هي أفضل الذرائع؛ ولكن حذاري! ذريعة مثل هذه سوف تؤخذ على محمل الجد، وتؤدي حتما إلى استشارة طبيب، وإلى فحوص وعلاج. فكرت مليا في المسألة. وتذكرت أن لي ضرسا - ضرس العقل - مثقوبة، ولا ضير في علاجها لدى طبيب أسنان. ارتحت لهذا الحل و أخذت قسطا من النوم. وفي السادسة صباحًا، إذا بأحد يطرق الباب. استيقظت وفتحت الباب واضعا يدي على خدي. فإذا هو بصديقي الصيني. أشرتُ إليه - قبل أن يتكلم - أني أعاني من ألم شديد في الضرس منعني من النوم طوال الليل، وأني والجماعة للأسف لن نتمكن من الخروج. احتار الرجل قليلا وارتبك، ثم أخرج هاتفه بسرعة وأجرى مكالمة قصيرة، وقال: يجب أن نذهب فورا إلى المستشفى. وفي 7 صباحًا، كنت مستلقيا على طاولة طبيب الأسنان.

السفر إلى الصين شيء استثنائي.. لقد تأثرت جدا بما رأيتُ وسمعتُ. وتعجبت من السهولة التي تمكنا بها من التغلب على إكراهات و قيود البروتوكول والرسميات، وخلق علاقات صداقة وتفاهم بيننا وبينهم على المستوى الشخصي.

كان رئيس وفدنا، الأستاذ بلاه ولد مگي رائعا في أدائه وسلوكه. كان فطِنا نبِها وسلِسا في تعامله مع الوفد الصيني. وسأعود للحديث عنه بإسهاب في إطار ورقة خاصة بأمناء الحزب الذين عملت معهم طيلة 12 سنة، وهم: الشيخ سيد أحمد ولد باب، بلاّه ولد مگيّ، سيدي محمد ولد بوبكر، محمد يحظيه ولد المختار الحسن، لوليد ولد ودّاد، حفظهم الله ورعاهم.

والأكثر طرافة ودعابة في سفرنا هذا هو عجز الصينيين عن نطق اسم "بَلاّل" و "بَلاّه"، فكانوا يقولون لنا صباحا ومساء: بَلا، بَلا،، نسأل الله السلامة والعافية. ههه