تتسم العلاقات الموريتانية الصينية بسمات وخصائص تاريخية وسياسية وإقتصادية وتجارية جعلتها تختلف عن علاقات الصين بأي بلد آخر في شبه المنطقة، ومن أبرز تلك الخصائص الأسس التي تستند عليها، والتي تؤكدها تصريحات مسؤولي البلدين، نذكرمنها ما جاء على لسان السياسي والوزير الموريتاني السابق السيد محمذن ولد باباه، حيث قال بأن"موريتانيا في طور الـتأسيس بحثت عن من تعتمد عليه فلم تجد سوى الصين"، وهو ما أكده الرئيس السابق المغفور له المختار ولد داداه في مذكراته بقوله " لم أجد أي تعاون تمكن مقارنته بالتعاون الصيني، فهو تعاون مثالي من جميع الأوجه ... فيا ليت كل المانحين عبر العالم حذوا حذو الصينيين". هذا عن الجانب الموريتاني، أما عن الجانب الصيني، فتعتبرالصين الرئيس المؤسس أحد الرواد الأوائل، الذين وضعوا حجر الأساس لإقامة العلاقات الصينية الإفريقية، والصينية العربية بعد دوره البارز في استعادتها لعضويتها في الأمم المتحدة أثناء رئاسته لمنظمة الوحدة الإفريقية سنة 1971، وهو ما مهد الطريق لتنامى العلاقات بين البلدين على نحو مستقر وشامل، جعل مستشارالدولة وزير الخارجية الصيني وان يي، يخصها دون غيرها في تصريحاته على هامش اجتماعات منتدى التعاون الصيني الإفريقي بالعاصمة السنغالية داكار نهاية نوفمبر 2021 بوصف خاص، حيث قال عنها " علاقات الصداقة الحديدية "، ولا يطلق هذا الوصف عادة في أدبيات الخارجية الصينية إلا على العلاقات الصينية الباكستانية، والقليل من الدول حول العالم.
وتكتسب العلاقات بين البلدين خصوصيتها أيضا من أرقام حجم التبادل التجاري بينهما ،الذي بلغ خلال العام المنصرم حوالي 2.71 مليار دولار مع فائض في الميزان التجاري لصالح موريتانيا بقيمة 894 مليون دولار. لكن هذا الفائض التجاري الذي شكل حوالي نصف احتياطي موريتانيا من العملة الصعبة كان عجزا سالبا على حسابها بقيمة حوالي 175 مليون دولارسنة 2018، وذلك تماشيا مع انتقال متسوط سعر طن خام الحديد من 69 دولارا إلى حوالي 160 دولار، وهو ما يجعل من العلاقات التجارية بين البلدين تحت رحمة تقلبات أسعارخام الحديد. وخلال تفشي جائحة كورونا برهنت الصين أنها ليست أكبر شريك تجاري فحسب بل وأفضل صديق وقت الضيق لموريتانيا، حيث منحت أكبر كمية من اللقاحات حوالي 3.53 مليون جرعة، بالإضافة إلى المستلزمات الطبية الأخرى، مما ساعد على كسب المعركة ضد الوباء بل إن سياساتها الاقتصادية التي انعشت الطلب على المعادن ونشاط التعدين عالميا ساهمت في إنقاذ الاقتصاد الموريتاني من الانهيار خلال العامين الماضيين حسب البنك الدولي.
ولكن ورغم العلاقات الدبلوماسية المبكرة والمتواصلة بين البلدين إلا أنها شهدت خلال السنوات الأخيرة حالات تقارب وتباعد خاصة مع دخول الصراع بين الغرب والشرق مرحلة جديدة جعلته يشمل كل أرجاء العالم، حيث أصبحت العلاقات تمر بمرحلة شابها الكثير من التقهقر على الأقل على مستوى حجم المشاريع الصينية في موريتانيا، التي تراجعت بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، إذ تعد موريتانيا البلد الوحيد في شبه المنطقة الخالي من مشاريع مبادرة الحزام والطريق في مجال البنية التحتية والربط الإقليمي والدولي، بل وحتى مشاريع التعاون في أسواق طرف ثالث بين فرنسا والصين، الذي بلغت قيمة دفعتها الرابعة المصادق عليها مطلع العام الجاري حوالي 1.7 مليار دولار لم يكن من بينها مشروعا واحدا موريتانيا، كما تناقصت الاستثمارات الصينية المباشرة في موريتانيا رغم زيادتها الكبيرة في بقية دول العالم العربي، حيث بلغت حوالي 17مليار دولار سنة 2021 ، بل هناك دلالات عديدة أخرى كشفتها زيارة نائب رئيس اللجنة الوطنية للمؤتمرالاستشارى السياسى للشعب الصينى ورئيس صندوق هونغ كونغ التشاركي مطلع أكتوبر الماضي، أرفع مسؤول صيني يزور انواكشوط منذ سنوات.
ويعد تجسيد العلاقات الموريتانية الصينية في صيغة معادلة الدعم الدبلوماسي والسياسي مقابل الدعم التنموي الاقتصادي، والارتكان إلى تفاهمات حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبقاءها حبيسة مقاربات الرعيل الأول، حيث تفضيل تعاون المانحين على حساب تعاون الشركاء والمستثمرين أكبر عائق أمام تطويرها، وبناء شراكات جديدة، وهناك فرصا كثيرة وكبيرة مهدورة نتيجة لذلك.
وكان يمكن أن تمرالقمة العربية الصينية الأولى التي ستعقد يوم الجمعة القادم بالمملكة العربية السعودية، كغيرها من القمم في صمت وعدم اهتمام، ولكن بعض الرسائل والتصريحات التي سبقتها باتت تلقي بظلالها على مستقبل هذه العلاقات، وتعيدها إلى دائرة الضوء مجددا، ولعل آخرها مشاركة موريتانيا لأول مرة في النسخة الخامسة من معرض الصين الدولي للاستيراد، والخطاب الذي ألقاه فخامة رئيس الجمهورية محمد الشيخ الغزواني بتلك المناسبة، والذي جدد فيه "التأكيد على دعم موريتانيا الثابت لمبدإ الصين الواحدة، وعلى تمسكها بتنويع وتعميق الشراكة مع الصين"، وقبل ذلك تأكيده على المستوى المتميز للعلاقات التاريخية والاستراتيجية بين البلدين، في رسالة تهنئة بعث بها إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ، بمناسبة إعادة انتخابه أمينا عاما للحزب الشيوعي الصيني نهاية أكتوبر المنصرم.
وتعد مشاركة موريتانيا في معرض الصين للاستيراد التي طالبنا بها أكثر من مرة خطوة في الطريق الصحيح قد تتعزز بلقاء بين قائدي البلدين على هامش قمة الجمعة، ففخامة الرئيس محمد الشيخ الغزواني، ونظيره الصيني شي جنين بينغ لم يلتقيا منذ انتخاب الأول رئيساً لموريتانيا عام 2019، ومع ذلك ومن أجل تجسيد طموحات موريتانيا في تعميق الشراكة مع الصين، والتي عبرعنها فخامته في أكثر من مناسبة، نعتقد أنه لابد من تفعيل دورها في مبادرة الحزام والطريق عن طريق العمل على رؤية وطنية تتلاقى وتتقاطع مع هذه المبادرة (اﺳﺗراﺗﯾﺟﯾﺔ اﻟﻧﻣو اﻟﻣﺗﺳﺎرع واﻟرﻓﺎه اﻟﻣﺷﺗرك مثلا) ، مع التوقيع على خطة التنفيذ المشترك للمبادرة بين البلدين، بالإضافة إلى الانضمام إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وذلك من أجل تعزيز الولوج إلى التمويل الصيني الذي توفره المبادرة، و مؤسساتها المالية، وكذلك تسهيل إقامة شراكات اقتصادية جديدة مثمرة وفق المفاهيم و الخيارات جديدة للتنمية وفي مختلف المجالات سبيلا للارتقاء بالعلاقات إلى المستويات التي تعكس العلاقات التاريخية وتلبي طموحات الشراكة الاستراتيجية الناجحة المنشودة ، القائمة على أساس المصلحة المشتركة، في إطارٍ من الاحترام المتبادل والثقة الراسخة.