يوليو 2004، سافرت بصفتي وزيرا للشؤون الخارجية من نواكشوط متجها إلى دولة أفريقية صديقة في مهمة رسمية. وكانت أول مرّة أزور فيها ذلك البلد الصديق. حطت بنا "الموريتانية" في دكار، ومنها مباشرة واصلنا السفر على "الأثيوبية".
بعد الإقلاع بدقائق معدودة من مطار "سنغور" هزّ إعصار عنيف الطائرة لدرجة أن الركاب أسلموا أنفسهم للتكبير والأذان. كنت في مقدمة الطائرة، وعن يميني شيخ موريتاني مسِن يرتدي قفطانا أبيض مخيطا على الطراز "الداهومي"، ويمسك مسبحته وعصاه بحزم، وخلفي فتى غير موريتاني وسيم الوجه وطويل القامة، يرتدي بدلة راقية وربطة عنق فاخرة. كنا ثلاثة فقط في درجة الأعمال. وكنت طوال الوقت أفكر في ذلك الرجل العجوز الذي يسافر وحده من دولة إلى أخرى، ويشتري التذاكر الغالية "تذكرة درجة الأعمال". شيخ ضعيف لم يستطع شد حزام الأمان إلاّ بمساعدة المضيفة. وكان المسكين يرتجف ويرتعش مع كل هزة أو فجوة هوائية.
وبعد أقل من ساعتين، أعلن الطاقم عن بداية النزول صوب وجهتنا، و وزِّعت بطاقات الهبوط. اقتربت من السيد العجوز لأساعده في ملء بطاقته استعدادا لإجراءات الشرطة عند الدخول. أعطاني جواز سفره. كتبتُ الاسم واللقب، وتاريخ ومحل الميلاد، ورقم الرحلة، وتاريخ الوصول؛ ثم واجهتني مشكلة في ملء خانات: المهنة (؟)، والعنوان (؟)، وسبب الزيارة (؟). سألته عن ذلك، قال بعفوية وبراءة: الشغلة : حجّاب، يا ونّي. قلت في نفسي: الله، ماذا عسايَ أكتب؟ إمام؟ مقرِئ؟ تاجر؟ أم بلا مهنة؟ أمسكت بقلمي و تجاوزت تلك الخانة، وسألت عن عنوان الإقامة، قال: ألاّ عند الرئيس، يا ونّي. قلت مندهِشا: رئيس آش، يا والدي؟ قال: الرئيس ألاّ الرّئيس، يا وني حتّ. هزني الموقف هزا. شعرت بالخَوف، وانسلخت من الموضوع نهائيا.
هبطت بنا الطائرة بسلام، وفتّحت الأبواب، فإذا بسيارة فخمة، داكنة المرآة متوقفة لدى سلم الطائرة. في أول وهلة حسبتها تنتظرني، ولكن سرعان ما تبيّن لي أنها تنتظر الشيخ العجوز. وقد رأيته يدلف إليها ويغادر المكان. ارتبكت وتحيّرت من هذا المشهد، ولكني شعرت بالرعب أكثر عندما رأيت الشاب الأنيق الذي كان جالسا خلفنا يلتحق بالشيخ مسرعا داخل السيارة. وسبحان الله العظيم، لم يخطر على بالي طيلة السفر أن بينهما علاقة أو معرفة.
بعد ذلك بدقيقة، رافقت زميلي، وزير الخارجية، ألى صالون الشرف، ونظرت حول القاعة.. ولم أر الرجل الحجّاب.
* للقصة بقية *