ملتقى الفكر الإسلامي العشرون 1986م في مدينة «سطيف» عن الإسلام والعلوم الإنسانية (تابع)
محاولة السفر إلى الجزائر:
كانت هناك طائرة تذهب إلى الجزائر مباشرة من جنيف، وهي مليئة، ولكن قالوا لي: اذهب إلى المطار، لعل راكبًا يتخلّف في آخر لحظة، فتكون فرصة، والغريب يتعلّق بقشة -كما يقولون- فذهبت إلى المطار تعلقًا بهذا السراب، ولم يتخلَّف أحد.
كل هذا، والإخوة في الجزائر قد انتظروني بالمطار في الموعد المضروب، ولم يجدوني، ولم أعتذر، ولا يعرفون عني شيئًا، وأهلي في مصر يظنون أني قد وصلت إلى الجزائر، وأنا لم أتصل بأحد، لأني لا أعلم متى أصل، ولا كيف أصل، ليس عندي معلومة أعطيها لأحد.
الطريق إلى الجزائر:
وما زال الإخوة في دار المال الإسلامي يبحثون، حتى وجدوا طريقًا من عدّة وصلات: أسافر إلى زيورخ، ومنها إلى نيس في فرنسا، وأبقى حوالي أربع ساعات، ومنها إلى الجزائر، ورغم المشقة في الرحلة، لم يكن لي بد من قبولها، والمضطر يركب الصعب -كما يقول المثل- وكما يقول الشاعر:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وبعد تغيير التذكرة أخذت الطائرة من جنيف إلى زيورخ، ومن زيورخ أخذت طائرة أخرى إلى نيس، وفي مطارها بقيت أربع ساعات مرة طويلة بطيئة، لا تكاد عقارب الساعة فيها تتحرك،
قرأت بعض سور القرآن من حفظي:
وقد اعتدت في الساعات الطويلة التي أتوقف فيها في المطارات: أن أخرج قلمي وورقي وأكتب، فلا أكاد أحس بالوقت، ولكن من فرط الإعياء الذي حلَّ بي من الناحية الجسمية والنفسية، لم يكن عندي قابلة للكتابة. كل ما أستطيع أن أفعله أن أشغل نفسي بقراءة القرآن من حفظي ... والحمد لله، لم أزل قادرًا على أن أتلو سورًا وأجزاء كاملة بدون الحاجة إلى مصحف، ومن غير أن يضيع مني حرف واحد، وهذا بفضل الله تعالى، ثم بفضل الحفظ في الصغر، فهو كالنقش على الحجر، كما قالوا.
في مطار العاصمة الجزائرية:
وعندما جاءت الطائرة الذاهبة إلى الجزائر، ولا أذكر: أكانت جزائرية أم فرنسية، استقللتها حتى حطَّت بسلامة الله إلى العاصمة الجزائرية، قبل الفجر بنحو ساعتين، وبالطبع لم أجد أحدًا ينتظرني، إذ لا علم لأحد بحضوري. ولكن المسؤولين عن المطار رحّبوا بي وأحسنوا استقبالي، وأجلسوني في حجرة عندهم وقدّموا لي الشاي والمشروبات المختلفة، حتى أذن الفجر فصليت، وانتظرت حتى أشرقت الشمس، وبدأ الناس يذهبون إلى وزاراتهم ودوائرهم ليمارسوا أعمالهم اليومية، وهناك اتصل مسؤولوا المطار بالمسؤولين في وزارة الشؤون الدينية، يعلمونهم بوجودي، وسرعان ما أقبل الإخوة من الوزارة، وتأسفوا غاية الأسف أن لم يكن أحد في استقبالي، وعذرهم أنهم لم يكونوا يعرفون أي معلومات عني، ولا يعلمون: لماذا تخلّفت عن طائرتي الأولى؟ ولا على أيِّ طائرة سآتي بعدها، وقلت لهم: لا عَتَبَ عليكم، ولا عَتْب عليّ أيضًا، فهو أمر قدره الله، وما قدره لا بد أن ينفذ.
استراحة في فندق الأوراسي:
قالوا: إن السيد الوزير، ومعه المدعوون والمشاركون في الملتقى، قد استقلّوا الطائرة الخاصة على ما هو معتاد مساء أمس، إلى مدينة سطيف لتبدأ أعمال الملتقى من صباح اليوم. والمطلوب الآن: أن تستريح في الفندق لبضع ساعات، حتى تُعوِّض معاناة الأمس، ثم نُهيئ لك سيارة مناسبة تأخذك إلى سطيف، لتلحق بإخوانك هناك.
قلت: على بركة الله، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. {رَّبَّنَا عَلَيۡكَ تَوَكَّلۡنَا وَإِلَيۡكَ أَنَبۡنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].
واسترحت قليلًا في فندق الأوراسي الذي اعتدت على النزول به، وإن كنت في مثل هذه الأحوال لا أستطيع التعمق في النوم، ككثير من إخواني الذين أغبطهم على سهولة نومهم، فبمجرد أن يضعوا رؤوسهم على وسائدهم يغطُّون في نوم عميق، أما أنا فحديثُ النوم معي ذو شجون، ولله في خلقه شؤون.