*
*ملتقى الفكر الإسلامي العشرون 1986م في مدينة «سطيف» عن الإسلام والعلوم الإنسانية (تابع)*
*الإسلام والعلوم الإنسانية:*
كان موضوع الملتقى هذه المرة، هو: «الإسلام والعلوم الإنسانية».
وهو موضوع له اعتباره وأهميته في التكوين الفكري والثقافي للأمة، لأن العلوم الإنسانية والاجتماعية هي التي تصنع الأفكار والميول والأذواق والاتجاهات العقلية والنفسية والسلوكية، التي تختلف فيها الأمم، ويتمايز بعضها عن بعض.
إن العلوم الكونية المادية: عالمية بطبيعتها، فهي لكل الأمم، ولكل الأديان والثقافات، لا وطن لها، ولا دين خاص بها، بخلاف العلوم الإنسانية والاجتماعية، فهي التي تلوّن ثقافة الأمم، وتميّز فكر بعضها عن بعض.
فإذا كانت العلوم الطبيعية والرياضية، لها أثرها في عالم المادة، وهي التي غيّرت الحياة من حولنا، وقرّبت البعيد، وأنطقت الحديد، وجعلت العالم قرية واحدة، فإنّ العلوم الإنسانية والاجتماعية هي التي تغيّر الإنسان، أو تحاول أن تغيّره، لأن تغيير الجبال والصخور أسهل من تغيير الإنسان: تغيير عقيدته وفكره واتجاهه.
ولقد ألف أحد أقطاب العلم الغربي من الحاصلين على جائزة نوبل في العلوم -وهو الأستاذ ألكسس كاريل- كتابًا سماه: «الإنسان ذلك المجهول» بيّن فيه: أن الإنسان عرف الكثير من أحوال المادة وخصائصها، من الذرّة إلى المجرَّة، واستطاع أن يوظفها في تيسير ظروفه، وتحقيق أهدافه. ولكنه للأسف يجهل الكثير عن أحوال نفسه.
وهذا هو سر المشكلة أو المأساة التي يعيشها الناس اليوم: أنهم لا يعرفون حقيقة أنفسهم؛
لذا كان من المهم: أن يعقد هذا الملتقى لبيان الموقف الإسلامي من العلوم الإنسانية والاجتماعية: علم النفس، وعلم التربية، والفلسفة، وعلم الأخلاق، وعلم الاجتماع، وعلم التاريخ، وعلم الاقتصاد، وعلوم اللسانيات، وغيرها.
ولا سيما أن هذه العلوم قد وصلت إلينا، كما عرفها الغرب وأصّلها وعرضها، فهي غربية المنبع والجذور والفكر والأسلوب.
ونحن فيها، عالة على الغرب، وجميع المثقفين وأساتذة الجامعات: تلاميذ تابعون للمدرسة الغربية، يحتكمون إلى فلسفتها، ويؤمنون بقيمها، ويدافعون عن توجهاتها، ولا يرون في الوجود بديلًا عنها إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
إن هذه العلوم تدرس في جامعات البلاد العربية والإسلامية بصفة عامة، كما جاءت من الغرب، دون نقدها، ولا تعقيب عليها، إلا ما كان من الغربيين أنفسهم، حين ينقد بعضهم بعضًا، وإلا ما ندر من بعض علمائنا العرب والمسلمين، وقليل ما هم.
وما زلنا ننتظر من الأجيال الجديدة من العلماء: أن يغوصوا ويتعمَّقوا في هذه العلوم، وألا يقفوا منها موقف التسليم المطلق، بل موقف الفاحص الناقد المتخيّر، في ضوء الواقع المشهود، وفي ضوء تطور العلم والمعرفة، وفي ضوء تراثنا وتراث البشرية؛ ليستخرج منها ما هو أقوم قيلًا، وأهدى سبيلًا، وأثبت في ميزان الحق.
لا نريد أن ننفي ما وصلت إليه البشرية من نتائج ومعارف في هذا المجال، فهذا ما لا يتصور، ولكننا نريد أن ندرسه دراسة الناقد المتأمل، لا دراسة المقلد المتلقّي، نأخذ منه وندع، وَفق قراءتنا ومعاييرنا.
وبهذا نظهر المدارس الإسلامية المختلفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية: المدرسة الإسلامية في علم النفس، والمدرسة الإسلامية في علم الاجتماع، والمدرسة الإسلامية في علم التربية، وهكذا، وأنا أوثر هذا المصطلح، على مصطلح «علم النفس الإسلامي»، و «علم الإجتماع الإسلامي» إلى آخره.
وبعض هذه العلوم خُدِم من الناحية الإسلامية خدمة كبيرة مثل «علم الاقتصاد» الذي قدمت فيه أطروحات إسلامية «ماجستير ودكتوراه» بالعشرات وربما بالمئات، وأنشئت له أقسام بالجامعات، ومراكز أبحاث، ومجلات متخصصة ... إلخ على حين لم تتح لعلوم أخرى مثل علم الاجتماع مثل هذه الخدمة والعناية.