سافرت إلى قطر، وانقضت مدة من الزمن، حتى دعانا صديقنا الشيخ صالح كامل إلى عقد ندوة عن الزكاة، تعقد في مركز صالح كامل في جامعة الأزهر، في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، أظنها كانت في عام 1987م، وكان الوزير المحجوب من المدعوين في حفل الافتتاح، وقد رآني فأرسل إلي ورقة يقول فيها: أريد أن ألقاك بعد الافتتاح لأمر ضروري.
وبعد أن انتهينا من الحفل الافتتاحي، أقبل عليّ بلهفة، وقال: أنا أبحث عنك من زمن، وأريد أن أخلو بك، لأتحدث إليك. قلت: لا بأس، وليكن ذلك الآن، فما أضمن وقتي بعد.
واجتمعنا في إحدى الحجرات، وبعد الترحيب والمقدمة، قال: أنت العالم الوحيد الذي يثق به المسلمون في كل مكان، ويستمعون إلى كلامه، ويأخذون بفتاواه، ولا مأخذ عليه في علمه أو دينه، ونهجك نهج وسطيّ معتدل، لا إفراط فيه ولا تفريط، وهو النهج الذي ترحب به الدولة هنا في مصر، وتحرص على إشاعته وتعليمه للناس، وغرسه في نفوس الأجيال.
ولهذا نريد أن يكون لك مكانة في الإعلام - وفي التلفزيون خاصة - تتفق ومنزلتك في العلم والدين، وتتناسب مع نظرة الناس إليك.
نريد أن يكون لك برنامج أسبوعي - على الأقل - في وقت حيوي تظهر فيه على الشاشة وتقول ما عندك للناس، يشاهدك فيه ستون مليونًا في مصر وحدها.
قلت له: هذا رأيك أم رأي الدولة؟
قال: هو رأيي ورأي الدولة. ونستطيع أن نجعله برنامجًا حواريًا، وتختار من يحاورك من كبار العلماء والمفكرين المعروفين: د. محمد عمارة، د. كمال أبو المجد، أو أحد علماء الأزهر... أو من شئت.
قلت: وما المقصود من هذا البرنامج؟
قال: لا شيء غير إشاعة الفكر الوسطي الذي تدعو إليه، وتثبيته، ومطاردة فكر الغلو والتشدد.
قلت: ولكني محسوب على الإخوان المسلمين، المحاربين من الدولة، فكيف يفسر الناس ظهوري المفاجئ على التلفزيون؟ أخشى أن يقول الناس: إن الحكومة اشترت القرضاوي بهذه البرامج؟
قال: أنت فوق الشبهات، وتاريخك يردُّ عليهم. وما تقوله أيضًا يجيب عنك، فليس مطلوبًا منك أن تمدح أحدًا أو تذمه، إنما تقدم للناس الإسلام الصحيح.
وكان موعد الجلسة العلمية الأولى في ندوة الزكاة، قد حان، فاستأذنته أن أذهب إلى الجلسة، قال: على أن نلتقي مرة أخرى قبل سفرك، فلم ينته حديثنا بعد.
قلت: ربنا يُيسِّر.
وانتهت جلسات الندوة، وكانت لي فيها ورقة قدَّمتها، وعقبت على بعض البحوث المقدَّمة. وعدت إلى الدوحة، دون أن يتم اللقاء الذي رغب فيه الوزير.
ولكنه ظلَّ يلاحقني حتى عدت مرة إلى القاهرة، فطلب إليّ أن نجلس دقائق لنكمل الحديث الذي بدأناه. قلت له: بصراحة أنا لست مستريحًا إلى هذا العرض، ولا أعرف ما الهدف منه حقيقة؟
قال: قد شرحت لك الغرض، ولا شيء إلا أنَّ الدولة تريد أن تقول: إنها ليست ضدّ الإسلام، وإن القرضاوي - وهو رمز الإسلام الأول- يعرض الإسلام كما يريد بكل حرية.
عدم ارتياحي لإلحاح الوزير:
قلت له: أولًا: لست وحدي رمزًا للإسلام، فهناك - والحمد لله - رموزًا لعلّها أفضل مني عند الله، وعند الناس.
ثانيًا: إذا كانت الدولة تريد أن تُحسِّن صورتها عند الشعب، وأنها تُرحِّب بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، فلتَخْطُ بعض الخطوات التي تدل على ذلك.
قال: مثل ماذا؟
قلت: مثل السماح للمحجبات بالظهور على شاشة التلفزيون، مثل منع الصور الفاضحة أن تعرض على الشاشة، مثل إعلان العزم على تطبيق الشريعة، ولو بالتدريج مثل إطلاق الحرية السياسية للجميع، ومنهم الإسلاميون... إلخ.
قال: هذا يحدث بالتدريج.
قلت: فلتكن خطوات في هذا السبيل، ثم ننتظر الباقي.
وكأن هذا الكلام لم يصادف هوى عند الوزير، وكأنه صُدم به ... ويبدو أنه كان يتوقع أن أطير فرحًا بهذه الفرصة؛ ففوجئ بهذا الموقف مني. فسكت عن طلبه هذا إلى حين.