لا تعرف في موريتانيا قصة أكثر إثارة من مكب تفيريت، فمنذ عشرين سنة تقريبا وريح جبال القمامة تزكم أنوف ورئات سكان منطقة تفيريت والقرى القريبة منها، وتتسرب شيئا فشيئا إلى المشهد السياسي والإعلامي بعد أن كسر سكان القرى الصمت، وخرجوا في مظاهرات حاشدة وبعد أن طرقوا كل باب.
ورغم اتخاذ السلطات الموريتانية قبل سنتين قرارا بإغلاق المكب، إلا أن ذلك الإغلاق لم يطل ولم يدم، وتعالت من جديد آثار هذا المكب المقرف، ذي التاريخ المنتن في الإيذاء ونشر الأمراض في منطقة طالما عرفت بجودة هوائها وامتداد كثبانها الذهبية، وارتواء أنجادها ووهادها من عبير القرآن وتحبيره، وعلوم الشرع طيلة "القرون التي مضت".
هكذا بدأت القصة الحزينة التي لاخاتمة لها حتى الٱن، في حدود 2004 عندما نقل عمدة بلدية العرية إلى سكان قرية تفيريت بشارة إقامة مصنع لتدوير القمامة، سيوفر فرص عمل وحركة تشغيلية نوعية في المنطقة والقرى المجاورة لها، ورغم ريبة السكان تجاه هذا المشروع فإنهم لم يعترضوا على مشروع لم يشرع فيه. بعد
بعد ثلاث سنوات بدأ مصنع معالجة القمامة يظهر من بين التلال الذهبية، وبدأت شركة "بيزرنو" تنقل يوميا مئات الأطنان من القمامة في شاحنات مغلقة تنهب الرمال باتجاه المكب الذي أقيم وفق معايير تحترم بعض الاشتراطات البيئة، منها على سبيل التمثيل:
نقل القمامة في شاحنات مغلقة
آليات ضخمة لضغط القمامة
إقامة حاجز بلاستيكي ضخم يمنع تسرب الغازات والسوائل من القمامة إلى الأرض
تعبئة القمامة في حاويات مغلقة، بالبلاستيك والتربة
إقامة مواسير مثقبة لمنع انفجار القمامة بفعل الغازات المتراكمة
معالجة القمامة دون أن تتسرب روائح أو غازات ضارة وفق ما يقول خبراء الشركة يومئذ.
في العام 2014 ساءت العلاقة بين الشركة الفرنسية والحكومة الموريتانية لينتهي الأمر بإغلاق المكب ونقل الشركة لآلياتها خارج البلاد.
في هذه الأثناء بدأت بوادر أمراض الجلدية وظهور حالات من السرطان بين أفراد من سكان تفيريت دون أن يلفت انتباهم خطر المكب وإمكانية أن يكون تأثيره قد تعدى البيئة إلى الإضرار بصحة البشر.
مجموعة نواكشوط الحضرية.. فوضى القمامة وإرهاب الدولة
مع استلام مجموعة نواكشوط الحضرية للمكب بدأت صحفة أخرى من الفوضى، وتلاشت كل إجراءات الاحتراز التي أقامتها شركة بيزرنو وبدأت القمامة تتراكم حتى أصبحت جبلا ضخما تمتد قمته طولا ناشرة النتانة وملوثة الهواء، ويمتد سفحه عرضا محتلا أرضا شاسعة من منطقة لم تعرف الجبال قبله.
وفي الوقت ذاته بدأت وزارة الصحة حرق النفايات والأدوية المنتهية الصلاحية في المنطقة، لينضاف الأمر إلى عمليات حرق متعددة لآلاف الأطنان من القمامة دفعت السكان إلى هجرة أرضهم والنزوح إلى العاصمة، إلا قلة مصابرة واجهت جبل القمامة بالتظاهر من أجل إنهاء حصار القمامة.
عقد من التظاهر والقمع
بدأ سكان تفيريت حراكهم الحقوقي من أجل إغلاق أونقل المكب، منذ العام 2014، وما زال مستمرا إلى اليوم، وقد أشرفت على التظاهرات لجنة من السكان، ووصل الأمر أقصى درجات النقمة بعد إعلان الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز عدم وجود أي ضرر من المكب، ويرى بعض السكان أن ذلك بسبب خدعة مارستها المجموعة الحضرية بدفن النفايات وإخفائها، قبيل زيارة الرئيس المذكور، ومع انتهاء الزيارة عادت حليمةلعادتها القديمة بتكديس القمامة دون احتراز أو مبلاة بالظروف الصحية التي ساءت بين السكان حينها.
واصل السكان بعد هذا التصريح الصادم نضالهم الذي قوبل بكثير من الصرامة و القمع، وفي الوقت ذاته توجهوا إلى القضاء، حيث انتدبت المحكمة المختصة خبيرا لإجراء دراسة بيئية وصحية، حيث أظهرت نتائج الخبرة العلمية المنفذة من طرف خبير البيئة الموريتاني عبد الرحمن الرباني، ضررالمكب البالغ على البيئة، و على تنعكتساته اللبية على صحة الساكنة، في المنطقة، والمقدر تعدادهم ب 10 آلاف ساكن، ويرتفع العدد ليصل للضعفين في العطل، وفي فترات الانتجاع والاستجمام.
كما أظهرت الدراسة خطر التهاون، بما يمكن أن يلوث مياه البحيرة الجوفية العذبة، لمنطقة ترارزه، والمتمثل في تسرب العصارة المتمخضة،عن مكب النفايات،المقام بطرق بدائية ودون طبقة من الضخور المصمتتة العازلة،أو الأسمنت المسلح، لمنع تسرب ونفاذ العصارة، إلى المياه الجوفية.
خاصة أن المياه الجوفية تحت سهل " تاركة" توجد بعمق يتراوح بين 12 و30 مترا، وهي مياه جوفية مالحة، تتقاطع مع بحيرة اترارزه العذبة عند الكلم 45 شرق نواكشوط، وعلى بعد 20 كم شرق "مكب النفايات"، في منطقة تيفريت.
كما بينت الدراسة الضرر الذي يمكن أن يلحق بصحة المواشي، التي ظلت تتغذى على المراعي الطبيعية، في سهل " تاركه"،قبل إقامة " المكب"، حيث أن سور حماية " المكب" ،لم يشيد على الأسس الهندسية الضرورية في مثل هذا النوع من الإنشاءات، والذي يلزم فيه مراعاة معايير فنية مثل:
- تشييد سور من السياج المعدني الجيد، بارتفاع لايقل عن ثلاثة أمتار، فوق قاعدة خرسانية بارتفاع متر مثلا.
- ضرورة تشييد حزام اخضر من أشجار الغلف" اكرون لمحاد " مكون، من أربعة صفوف،على امتداد محيط المكب من الجهات الأربعة.
- ضرورة اختيار سياج مزدوج مكون من سياج معدني جيد، مع السياج المشبك، مع الإلتزام بصيانتهما بإستمرار، لمنع تسور قطعان المواشي، التي تدخل يوميا من السياج الحالي المتهالك، في العديد من أجزائه، مما سبب نفوق الكثير من المواشي في المنطقة، وانتشار أمراض بيطرية، بين مواشيهم،مثل الجرب والأمراض الصدرية وغيرها.
وكشفت الدراسة عن تعريض صحة المواطنين للخطر، بسبب ناقلات الأمراض من الذباب والبعوض والفئران والصراصير والغازات السامة، في تفشي أمراض خطيرة مثل السرطانات، وأمراض الكبد، والكوليرا وحمى التيفوئيد، والحمى الصفراء، والطاعون والسل والأمراض الجلدية بين ساكنة قرى المنطقة.
وخلصت الدراسة إلى أن نواكشوط ينتج يوميا أكثر من 1.000 طن، من النفايات أغلبها من البلاستيك ومخلفات البناء، والنفايات الطبية، وجثث الحيوانات، وبقايا المعادن والقماش وغيرها.
ونبهت الدراسة إلى أن تصريح إنشاء " مكب نواكشوط "، في منطقة تيفريت، من طرف وزارة المالية بالمقرر رقم 095، الصادر بتاريخ 15 يونيو 2004، لصالح وزارة الداخلية، قد شابه خرق قانوني واضح، إذ أن هذه المساحة من الأرض، لا يمنحها الا مجلس الوزراء، ولا يحق لوزارة المالية منحها.
كما أن بناء وتشغيل المكب شابه هو الآخر خرق قانوني لأنه لم يراع اشتراطات قانون البيية في موريتانيا، ولم يحصل على تأشيرة دراسة الأثر البييي معتمدة من وزارة البيية الموريتانية
وقد حدد المرسوم المنح مساحة المكب ب 204 هكتار، وهو ما يمثل مساحة تزيد عن (2.04 كم. مربع )، لم يسيج منها في المكب الحالي سوى مساحة لا تتجاوز نصف كم مربع.
كما بينت الدراستة، تلوث الهواء في منطقة المكب بالغارات السامة، والابخرة المنبعثة من النفايات المتعفنة، بسبب تخمر وتحلل المواد العضوية،وحبيبات الغبار المتناهية الصغر التي تحمل الميكروبات والجراثيم،والجسيمات الصلبة،كما أن الشاحنات تنثر في طريقها، بين أحياء العاصمة، وعلى امتداد طريق الأمل، الغازات والأبخرة المتعفنة، والميكروبات والجراثيم والمركبات الخطيرة على صحة السكان وسلامة البيية والهواء.
وأوضحت الدراسة مدى التلوث،الذي اصاب النباتات والأشجار، خاصة شجرتي السرح " ءاتيل" والمحيص" أيزن"،الموجودة في المنطقة القريبة من المكب، مما بعطي مؤشرات قوية على تلوث النباتات والمراعي الطبيعية التي ترعاها المواشي،مما يشكل خطورة على حياة الحيوان والبشر.
قرار المحكمة.. في انتظار التنقيذ
وبناء على الدراسة السابقة أصدرت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا، يوم 4 نوفمبر 2019 قرارها بقبول الدعوى شكلا ومن حيث الأصل أن منح المكب من طرف وزير المالية، مشوب بعدم الاختصاص، لأن هذه المساحة (204 هكتار) حسب القانون لا يمنحها الا مجلس الوزراء فقط،وهو ما يجعله في حكم المعدوم ،طبقا لما تواتر عليه الفقه والقضاء الاداريين.
كما أن القانون المطعون فيه لم يراع ترتيبات القانون رقم 045 لسنة 2000، المتعلق بحماية البيية.
ورأت المحكمة أنه اذا كان دافع الإدارة هو الحرص على تنظيف مدينة نواكشوط وحماية السكان، وهي مصلحة عامة لا جدال فيها،فإنه كان على الإدارة، أن تتوخى مصلحة سكان القرى المتضررة .
كما اعتبرت المحكمة أنه تأكد بشكل محقق، أن مكب نفايات نواكشوط في تفبريت، يشكل تهديدا متفاقما لحياة السكان الطاعنين في المقرر، ولا مناص من توقيف العمل في المكب، وتحويله إلى وجهة اخرى بعيدا عن التجمعات السكانية، تفاديا لحصد مزيد من الأرواح البشرية، عملا بقاعدة " الضرر يزال"، وتطبيقات للمادة 07 من القانون رقم 045-- 2000 ،التي تنص بالحرف:
" يجب على كل شخص، سواء كان طبيعيا أو اعتباريا، عموما أو خصوصيا، تسبب في ضرر للبيية، إصلاح ذلك الضرر وإزالة آثاره"
تقول المكمة العليا: وبذالك يكون المقرر المطعون فيه مخالفا للقانون وفاقدا لركن من اركانه وهو الباعث مما يجعله عرضة للإلغاء والإبطال، طبقا لما تواتر عليه الفقه والقضاء الإداريين، ويتأكد ذالك من خلال رسالة وزير البيئة والتنمية المستدامة ذات الرقم 560 الصادر بتاريخ 07 يونيو 2017، المودعة في الملف، وقد جاء فيها:
"أن الوزارة لم تصادق علي أيةدراسة للتأثر البيئي لمكب تفيريت، وقد وجه القطاع عدة رسائل إلى الوزارات المعنية بقصد لفت انتباهها إلى ضرورة تأهيل المكب حتى يستجيب للمتطلبات البيئية والصحية " وفيما يتعلق بمكب بتفيريت وتأثيراته الصحية والبيئية بينت الخبرة بعد استفاضتها في شرح الأضرار التي يسببها المكب للبيئة وتأثير ذلك على السكان مايلي:
"لم يتم إطلاع السكان على آثار الأنشطة الضارة بصحتهم وسلامة بيئتهم والتدابير المتخذة لمنع تلك الآثار فضلا عن التعويض عنها وهو ماتنص عليه مدونة البيئة "
"لم يتم إنجاز دراسة الأثر البيئي وإن كانت وإن كانت قد أنجزت فإنها لم تعرض على وزارة البيئة لإجازتها، وهو مايعني أنها في حكم المعدوم "
" لم تمنح وزارة البيئة ترخيصا بإقامة المكب"
وهكذا خلصت المحكمة بناء على تقرير الدارسة إلى:
عدم شرعية المكب
خطورة المكب على السكان والمنطقة صحيا وبيئا
الحكم بإغلاق ونقل المكب
معالجة الآثار الناتجة عن أضراره على السكان
ورغم هذا الحكم، فقد استمر المكب، وخلال فترة "كوفيد" كان السكان بين مطرقة حظر التجول والحراك وسندان ركام القمامة الذي يعلو كل يوم بطبقة جديدة، ومع نهاية 2020 بدأ مسار آخر من النضال عبر خيام الاعتصام الموسع الذي حرك الرأي العام وقوبل بقمع شديد.
مسار طويل من المفاوضات
مع وصول الأزمة إلى مرحلة اللاعودة بدأت الدولة مسارا جديدا من التهدئة وبعد اجتماعات مطولة مع وزير الداخلية السابق محمد سالم ولد مرزوق، قدم هذا الأخير وعودا بإغلاق المكب والبحث عن بديل جديد، دون أن يمنح تعهدا مكتوبا بذلك، ليعود الملف من جديد إلى المربع الأول.. التظاهر والنضال والقمع الوحشي من طرف السلطات من جديد
بعد فترة تقرر تكليف وزيري الداخلية والبيئة بحل أزمة مكب تفيريت، واعترفت وزيرة البيئة السابقة مريم بكاي بأن المكب خطر ويشكل كارثة بيئة على السكان، وأكدت الوزيرة اختيار مكان آخر وفق المواصفات الفنية والبيئة، ولكن كل ذلك يحتاج لمهلة سنة و سنة و نصف، وبعد ضعوط قوية سياسيا واجتماعيا تقرر قبول هذه المهلة الطويلة في انتظار إغلاق هذا المكب، وهكذا انتهت الفترة دون تنفيذ التعهد، وأكثر من ذلك فتح المجلس الجهوي للعاصمة نواكشوط، مناقصة لتوسيع المكب وهو ما يعني عمليا التراجع عن كل الوعود وفتح بوابة جديدة من التأزم بين السكان والدولة.. وربما فتح صفحة جديدة من الأمراض والأوبئة بين السكان.
كتب المحامي الشيخ حمدي: "في الوقت الذي انتظر فيه المتضررون من مكب النفايات القاتل والمقام بالضاحية الجنوبية لقرية تفيربت تنفيذ قرار الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا القاضي بعدم شرعية المكب وضرورة إغلاقه ، إذا بجهة نواكشوط تبدأ في القيام باعمال توسيعه باتجاه السكان!!!
لا تفسير لذلك عدى ان تكون جهة نواكشوط تجهل وجوب تنفيذ القرارات القضائية أو أنها تستهر بالقضاء واحكامه، وفي كلتا الحالتين فإن الأمر يدعو بالفعل للاشمئزاز.
ارادة السكان المتسلحة بقوة الحق ستبقى إلى أن يتم إغلاق المكب ومعالجة آثاره الكارثية."
الحكومة: لسنا متأكدين من ضرر مكب تفيريت
حاولنا في موقع الفكر أن نعرف مبرر الحكومة في عدم تنفيذ أحكام القضاء الواضحة بغلق المكب، فسألنا الوزير الناطق باسم الجكومة عن سبب عدم إغلاق المكب قكان جوابه:
"مكب النفايات "تيفيريت" في الحقيقة رأيت كتابات صدرت بالأمس، لكن لا أملك معلومات أنه تم الاعتراف بأن المكب له انعكاسات معتبرة مضرة بالبيئة سواء على الوسط البيئي السطحي أو على المياه الجوفية من جهة مختصة، لو كان الأمر كذلك لكانت الحكومة اتخذت التدابير اللازمة، يبدو أننا لا نملك( لا نتقاسم ) نفس المعلومات إلا أننا نتفهم امتعاض الساكنة حول الموضوع".
وبين حكم قضائي معلل بوضوح وصارم بدقة، وأمراض فتكت بكثير من سكان القرى المجاورة للمكب، واحتقان مجتمعي وسياسي جراء استمراره، وبين تشكيك جديد من الحكومة في ضرر المكب الأكثر سوء في تاريخ "قمامة البلاد" يفتح سكان تفيريت صفحة جديدة من النضال، ويستذكرون بأسى من قضوا بسبب آثار المكب، ومن رحلوا قبل أن يقطفوا ثمرة نضالهم لعقد من الزمن من أجل إبعاد جبل القمامة عن أرض جبال العلم وروائع الفتوة والأدب.