قرأت وأنا على جناح سفر خبر نعي الدكتور محمد المختار بن اباه في مواقع التواصل الاجتماعي، فتداعت إلى ذهني بعض الخواطر السريعة، سجلتها في هذه الخاطرة دون ترتيب أو تبويب، فالمحزون لا يحسن اللف والنشر والبيان والتبيين ولا الشعر والشعراء. وما مات من أبقى ثناء مخلدا.
لم ألتق بالشيخ الدكتور *محمد المختار بن اباه* في عالم الشهادة، وهي حقيقة ندمت عليها ندامة الكسعي، خاصة أنها تنم عن حجم كبير من التقصير من جانبي، فبابُ بيت بَابَ العامر، وصدره مفتوحان لأمثالي من المبتدئين وأمثاله من العلماء الربانيين، وقد حرص سلفنا الصالح على شد الرحال إلى المشائخ والأخذ عنهم والتبرك بهم، ولنا في *الشيخ بابا بن الشيخ سيديا* أسوة حسنة فقد حرص على لقاء جميع أعيان زمنه. وحاولت ملء ذلك الفراغ من خلال الاطلاع على بعض مصنفاته وكتبه وأبحاثه التي تشي بغزارة علمه، وموسوعية معارفه، وخبرته المنهجية، وولعه بالعلم، وإدراكه لأهمية الإنتاج الثقافي، واضطلاعه بمسؤولية نفض الغبار عن التراث الشنقيطي، وإبراز كنوزه المدفونة في مدائن التراث، فتعرف عليها الباحث والعالِم والعالَم بعد ترجمتها إلى اللغات الحية والحديث عنها في المجلات العلمية المحكمة.
إن القارئ لرحلة حياة الدكتور محمد المختار بن اباه، يلاحظ أن الله حباه بنعمتين قل أن تجتمعا في شخص إلا وعُدَّ من العباقرة؛ وهما الذكاء الخارق والهمة العالية، إضافة إلى ذلك فقد فهم وهو شاب يافع أهمية الوقت فرسم لنفسه خارطة طريق، حدد أهدافها بعناية، ووضع مرتكزاتها بدراية، فاتضحت الرؤية واستنار اللاحب، فتفطن الفتى النابه إلى أن الإمساك بناصية اللغات الحية هو مفتاح مستغلقات العلوم، فأتقن لغة سيبويه بين ذويه، وتعلم لغة مولير مع أصبية مدرسة النعمة، كما طور مستواه في اللغتين الإنجليزية والعبرية خلال مساره البحثي.
يتمتع الشيخ محمد المختار بن ابَّاه بثلاث خصال نادرة هي العصامية والطموح والمنهجية، فما سودته هاشم عن وراثة، بل أضاف مجداً طارفاً إلى مجد آبائه التالد، وأصبح رقماً وطنياً صعباً، وشخصية ذات نفوذ عابر لحدود النباغية واترارزة وموريتانيا و المغرب العربي وإفريقيا والوطن العربي، فحلقت به همته العالية حتى حصل على شهادة الدكتوراه، فكان أول موريتاني يدخل إلى ذلك النادي الذي لاتزيد نسبة منتسبيه عن 1% من سكان المعمورة، ثم تعلقت همته بالثريا فحلق بطائرته عاليا حتى نالها، ومن أراد العلى سهر الليالي.
لقد تعلم الدكتور محمد المختار بن اباه من المحاظر معارفها، واكتسب من المدارس مهاراتها، وأخذ من الجامعات مناهجها، كما مكنته الوظائف السامية التي شغلها في موريتانيا والمغرب والمملكة العربية السعودية وفرنسا والنيجر من توسيع دائرة معارفه، والتعرف على الشخصيات العلمية والفكرية والسياسية من مختلف الدول والأعراق والأجناس والملل والنحل.
إذا كان الشيخ عبدالله بن ياسين هو المعلم الأول في الربوع الشنقيطية، فإن الدكتور محمد المختار بن اباه هو المعلم الثاني، فقد ظل الرجل مسكوناً بهاجس العلم والتعليم حتى فاضت روحه الطاهرة، فترك بصماته في المناهج التعليمية الوطنية والدولية، من خلال عمله في موريتانيا كمعلم ثم مدير لمدارس تكوين المعلمين والأساتذة، إضافة إلى الوظائف التي شغلها في المنظمات العالمية كاليونيسكو والبنك الإسلامي للتنمية ورئاسته لجامعة النيجر وتأسيسه لجامعة شنقيط العصرية، فضلا عن تأليفه لمجموعة كبيرة ومتنوعة من الكتب العلمية التي ستنفع الناس وتمكث في الأرض.
إذا كان كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة يعدُّ أحد أرفع كتب الأدب قدراً وأنبهها ذكراً، وأقدمها نشراً، فإن كتاب الشعر والشعراء للدكتور محمد المختار بن اباه، يعتبر سِفراً نادراً وسفيراً فوق العادة لبلاد المليون شاعر، فقد ضم بين دفتيه زهاء ستة آلاف بيت، لأكثر من مائة شاعر موريتاني لم تنشر قبله، إضافة إلى تحليل اتجاهات الشعراء، وتأثرهم بالمدارس الشعرية، مع إبراز الخصوصيات الثقافية للشعر الشنقيطي. لقد نقل الدكتور محمد المختار بن اباه الشعر الموريتاني من الكنانيش ومسامرات الدسوت، إلى أروقة الجامعات العريقة والمجلات العلمية المحكمة، فاطلع عليه المستشرق والمستغرب والمستعرب، من خلال مقدمة نقدية رصينة تميزت بالقدرة على استخدام المفاهيم، والعلم هو التمكن من المفاهيم كما قال "كارل بوبر"، فأطلع القارئ الأجنبي على السياق المحلي من خلال تحليل الأنساق والبنى الفكرية وتوظيف المرجعيات النظرية، واستنطاق الحقائق والمعارف الثرية. وإذا كان سفراء المحظرة الأوائل أنشدوا الشعر الشنقيطي في المشرق، فإن الدكتور محمد المختار بن اباه عرف به في الغرب وأدخله من أبواب جامعة السربون الواسعة.
لا شك أن فيض خاطر حزين، كتب على عجل ووجل، لا يمكن أن يحيط بمختلف أبعاد شخصية علمية وعالمية مثل الدكتور محمد المختار بن اباه، ولعل الحكومة الموريتانية في المستقبل تنظم مؤتمرات وندوات حول الإسهامات العلمية للشيخ وقيمته المضافة الكبيرة في مجال البحث العلمي وحقول المعارف الإنسانية، كما انصح خبراء التنمية البشرية بالاستفادة من تجربته في تنظيم الوقت ووضوح الرؤية، والقدرة على رسم وتحقيق الأهداف. فقد حدثني الدكتور الباحث *محمد المختار بن السعد* أنه كان في مهمة رسمية في المملكة المغربية رفقة الدكتورين *عبد الودود بن الشيخ ويحيى بن البراء*، وكان الفقيد آنذاك في المغرب فاستدعاهم إلى بيته العامر، ودارت بين الدكاترة محاورات ونقاشات هامة، وفجأة انسحب الدكتور محمد المختار من المشهد، وبعد مرور دقائق أخبرهم الدكتور أحمد سعيد أن من عادة والده أن يخصص ساعة من الليل للعمل على مشروع بحثي يعكف عليه حاليا.
أنتهز هذه السانحة لأقدم أحر التعازي وأصدقها للأمة الإسلامية جمعاء والقطر الشنقيطي، وأخص بالتعزية أخوالي العلويين ودوحة آل اباه المحترمة، سائلاً المولى عز وجل أن يرزقهم أجر الصبر وحلاوة التسليم، وأن يتغمد الفقيد برحمته وعفوه ويسكنه الفردوس الأعلى، ويزكي أعماله الصالحة في ميزان حسناته فهو وحده القادر على ذلك وإنا لله وإنا إليه راجعون.