متى ستلتفت الدولة لإصلاح الإعلام العمومي كي يقوم بدوره التنموي المطلوب؛ وهل ستظل مكتوفة اليدين في ظل عجز مؤسساته عن مسايرة الطفرة التقنية والمضامينية في وسائل الاتصال الحديثة؟
هل تدرك الدولة حقيقة أن ضعف أداء بعض إعلامها في هذه المرحلة بالذات ينعكس سلبا على الصدى الذي ينبغي أن يتركه إعلامها على مستوى الرأي العام عموما وفي المشهد الاتصالي والتفاعلي والتأثير؟
ولكن بالمقابل متى يدرك واضعو السياسة الإعلامية الرسمية أن تشخيص هذا الواقع هو الأولى لمعرفة كيف تعمل هذه المؤسسات التى تنفق عليها المليارات من جيوب دافعي الضرائب دون أن تقدم محتوى مفيدا بقدر ما تلقاه من اهتمام وتسهيلات وما يصرف عليها من موارد وإمكانات..
لنبدأ بوكالة الأنباء الرسمية مثلا، وفي عصر ثورة الاتصال والرقمنة والسماوات المفتوحة حيث يتسنى لكل شخص الخوض في عوالم الأخبار والمعلومات عبر شاشة هاتف محمول.. هل تواكب الوكالة بوسائطها المختلفة - موقعا الكترونيا أو منصة - المستجدات بما يتطلبه ذلك من سرعة ومهنية ودقة في التحرير.. كيف يمكن لنا أن ننتظر ساعات حتى تحرر الوكالة خبرا يتكون من 200 أو 300 كلمة لنحصل على بعض معلومات مجتزأة لا تحمل في عنونتها ولا في مضمونها معلومات مهمة تمت صياغتها بلغة تقليدية وبأسلوب تحرير متوارث لا يراعي ديناميكية غرف التحرير وأساليب التشويق والإثارة المعقلنة لشد انتباه المتلقي؟
ألا يدرك منظرو السياسة الإعلامية الرسمية أن الإمعان في استخدام اللغة الخشبية يأتي بأثر عكسي سلبي في جلب المتلقي للشراك ويجعله ينفر من أي أسلوب رتيب وهو يرى فيه تكرارا لسيمفونية قديمة "ضربت في عهد دوقيانوس"..
ينسحب ما سلف على الإذاعة والتلفزة ومكتب إعلام الرئاسة حديث النشأة نسبيا..
فما بال الإذاعة تشابهت عليها الأمور فما عادت إذاعة وما صارت محطة تلفزيونية؛ وخرجت من "المولت بلا حمص" كما يقال.. لماذا هذا النزوع الغريب نحو منافسة وسائل الإعلام المرئية دون دراية واضحة بتداعيات ذلك الموقف؟ ولماذا لا تتجه الإذاعة لتطوير نفسها في إطار ذاتها بأن تعزز من انتشارها عبر الموجات الطويلة والمتوسطة وابتكار برامج تحترم القواعد المهنية في العمل الإذاعي مع تطوير منصتها الإلكترونية بما يناسب المقام بدل البث على مساحات التلفزيونات الخاصة؟ أليس في ذلك تشويش على منطق التعددية الإعلامية؟ ثم لماذا نعمل دائما على خلق "بروباكاندا"من خلال استغلال وسيلة الإعلام لفرض نمطية في التعبير لا تساير ما يشهده العالم من انفتاح؟
هذا الانفتاح أيضا كان ينبغي أن ينعكس على أداء التلفزيون الذي يبدو أنه هو الآخر ورغم زيادة موارده ما سمح له بالانتشار والتوسع؛ ليس قادرا على القيام بما عليه من عمل يخدم سياسة الدولة والنظام ويدافع عنها بأسلوب مقنع غير مبتذل.. إننا نخوض في غرف الأخبار وقاعات الإنتاج صراعا نقاشيا محتدما من أجل تغيير أسلوب التعاطي مع الأخبار والبرامج التلفزيونية لتواكب ما ينبغي من أساليب وطرق احتراما للقواعد المهنية وتجنبا لمنطق وأسلوب "لبرافدا" ولكن هيهات..
هل يدرك من يرسمون السياسة الإعلامية أنه توجد فروق بين مختلف الأجناس الصحفية، وأنه يوجد فرق جوهري بين التحرير للصحيفة المكتوبة الورقية، وتلك الإلكترونية، وبين التحرير الإذاعي والتحرير التلفزيوني؛ وأن خطوط التشابه تظهر من الخارج فقط وأن الاختلاف بينها يتجلى حينما ندرك أن القارئ ليس مثل المستمع، وأن المستمع ليس مثل المشاهد، وأن الهاتف جمع هؤلاء في وقت واحد قارئ ومستمع ومشاهد.
هذا من حيث الوسيلة، أما من خلال المضمون فهل تعلم السلطة أن رصد آراء مجموعة من المواطنين بشكل انتقائي لتثمين عمل حكومي مهما كانت فائدته لن ينطلي على جمهور هذا العصر الذي بات يبحث عن ذاته في مؤسساته الرسمية؛ وعندما يتابعها يلقى نفس المعجم رغم الخيارات الأخرى المتاحة.. ألا ترون أنه حان الوقت لإعادة تنظيم الخطاب الإعلامي الرسمي لاستعادة الثقة.. وأن ذلك لن يتحقق ما دام التلفزيون مثلا يقدم لونا واحدا من التثمين.. وينقي بالمصفاة الخطابات والبرامج.. ماذا لو كان الانفتاح معقلنا تدريجيا يسلط الضوء على الواقع بمصداقية لا تظلم المنجز ولا الواقع وبذلك تستعيد التلفزة وكل وسائل الإعلام العمومية الثقة المفقودة من بعض الجمهور ثم تستطيع بعد ذلك تسويق خطاب الحكومة وجلب المزيد من الداعمين له؟
ثمة مؤسسة أخرى حديثة الولادة نسبيا وهي المكتب الإعلامي للرئاسة والذي توقعنا أن يضيف جديدا يساعد وسائل الإعلام العمومية التقليدية من جهة ويتولى الجانب السيادي في تقديم أنشطة الرئاسة بطرق عمل جديدة تسهم في الحصول على المعلومة والخبر وفق الضوابط والقواعد المهنية فماذا حصل؟
الظاهر لي أن هذا المكتب لم يقدم المؤمل والمتوقع حتى الآن ويقتصر حسب ما أرى على قصاصات إخبارية متأخرة أحسبها منقولة من الوكالة الرسمية نظرا لطريقة تحريريها التقليدية وعدم عمق محتواها مع أننا توقعنا أن تحدث ثورة في هذا المجال تنسينا وسائل الإعلام العمومية.
أشير إلى ما حظيت به وسائل الإعلام العمومية خلال السنوات الثلاث الأخيرة من زيادة في الموارد وأجور العمال دون أن انعكاس على المحتوى والأداء.. فإلى متى تمهل أو تهمل الدولة هذه المؤسسات ولا تبادر بسياسة إصلاح هيكلية لها لتقوم بواجبها في عصر يتأكد فيه أن سلاح الإعلام.. أمظى وأخطر..؟