خلق الله الإنسان بعينين ويدين ورجلين.. إلخ، فجعل أغلب أعضائه الضرورية مثنى مثنى، نعمة منه وفضلا ورحمة، وشرع لنا التيامن في مختلف شؤون حياتنا فسمعنا وأطعنا، لكن {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} كما في صريح محكم كتابه قطعي الدلالة والثبوت، وقد نهينا عن التكلف على لسان نبيه الكريم (صلى الله عليه وسلم) فسمعنا وأطعنا وآمنا بحكمته تعالى؛ ما علمنا منها وما جهلنا.
بيد أن اللغة جاءت متحاملة على اليسرى بشكل غريب! فمن يعمل بها يسمى أعسر، مع سهولة تسميته أيسر لو أرادوا، لكنهم عدلوا عن اليسر إلى العسر، كما عدلوا إلى الشؤم حين سموا جهتها شاما بينما سموا جهة أختها يَمَنًا، وسموا الشراسة عَسَراً!!
ولم تشذ الحسانية عن نهج أمها؛ بل زادت فسمت غير السلِس وغير الملائم ومن فيه خفة وطيش "امعسري" وفيها يوصف العمل غير المحكم بأنه "معدل ابليد العسريه" والعكس بالعكس..
وسار قول العرب: "حذف أعسر" سير المثل فنال حصانة مع الزمن، ولعل أبا عذره امرؤ القيس في قوله واصفا ناقته:
كأن الحصا من خلفها وأمامها ** إذا نَجَلته رجلها حذفُ أعسرا
وقفَّاه الشماخ بن ضرار فقال في ناقة نفسه:
لها منسمٌ مثل المحارة خفه ** كأن الحصا من خلفه حذف أعسرا.
قد يكون لي قول في هذا؛ فقد نشأت أعسر، ولي سلف في ذلك، وأقارب شاركوني الوراثة فما حُجبوا عن أنصبائهم، بيد أني بجهد الوالدة – رحمها الله- ثم كسرٍ أصاب يسراي في طفولتي، صرت أضْبَطَ (أعمل بيديّ كلتيهما) وإن بقيت أعسر بالفطرة والعفوية؛ لذا أرجو أن أكون على بينة مما أقول، مع أني مراقب غير محايد.
هذه الأقوال لا تعدو إسقاطات من قائليها لحال غيرهم على حالهم (والحكم على الشيء فرع عن تصوره) فالأعسر دقيق التصويب قليل الخطأ، وإنما يصدق ما قالوه على غير الأعسر إذا استعمل يسراه، وهذا لا يسمى أعسر.
ومما يلفت الانتباه كثرة العبقرية وتعدد المهارات في العُسْر (جمعُ أعسر) بل إني قرأت قبل مدة بحثا في هذا المجال كاد يحشر العُسر في زمرة العباقرة، فكاد يزدهيني لولا أن رأيت أسماء قوم لا تسعدني معيتهم.
ومن باب حذف الأعسر أذكر أمرين ذوي علاقة بالموضوع:
1. كان الأديب الكبير محمد عبد الرحمن ابن الرباني (رحمه الله) يوما يصلح بعض شأنه وأنا غلام مولع بالدعابة، وهو يعلم ذلك، ومن هذا شأنه من حديثي السن لا يؤمن جانبه، فدعاني لإعانته فسارعت بطبيعة الحال، وحين شرعت فيما طلب مني فهمت منه ما يوحي بأنه ظن أني أحاكيه باستعمال يسراي، فلم تطب نفسي حتى ذكرت له أن والدي لا يستعمل يمناه إلا في المصافحة والأكل والشرب، خشية أن يظن بي ما لا يليق.
2. تعاونية للنساء في قرية للأهل استلمتها ثلاث من العائلة كلهن عسراء، وزدن فأوكلن إمساك الدفتر لرابعة مثلهن، وكن ربما بعن اللحم بواسطة جزار أعسر، فأبدت أخرى ممازحة عجبها كيف تربح تجارة جمعت خمسة من "أصحاب الشمال"!
جعلنا الله وإياكم من أصحاب اليمين.