لم يحدث أن استضافت مدينة موريتانية جلستين للحكومة في يوم واحد، ولم يدر بأذهان أكثر المفتائلين أن يقع اختيار مدينة روصو لتكون أما لذلك الحدث، وفاتحة له من بين مدن الوطن.
لكن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أزاح كل التوقعات جانبا، وأعطى عاصمة الترارزه ذلك الشرف؛ كسر التقاليد مرتين؛ مرة حين جعل مجلس الوزراء يجتمع مرتين في عاصمة ولاية الترارزة، ومرة أخرى حين جعل واحدا من الاجتماعين أمام جمهور عريض من ساسة الولاية وشبابها ونسائها وفعالياتها المختلفة.
لا تنقضي رسائل الحدث الوطني المعد بعناية يوم الخميس الماضي في المدينة الحدودية، ولا يمكن حصرها ولا اختزالها في تظاهرة احتفالية شعبية لرئيس يزور واحدا من معاقل شعبيته الكبيرة على امتداد رقعة الوطن.
لم يأت الرئيس إلى ولاية الترارزه، وهي ربما الولاية الأكثر حظوة في ظل حكمه، ليخاطب "أنصاره" بالمعنى السياسي، ولم يأت ليستمع إلى الفاعلين السياسيين في واحدة من الولايات التي تتنفس ترابها السياسة وصراعاتها، وتمطر سماؤها المترشحين والمبادرات والأحلاف. من كل أنشطته وأحاديثه طيلة اليوم والليلة، خص السياسة بحديث مقتضب، لا يتجاوز دقيقتين، أفضى فيهما برسالة واحدة لأنصاره مفادها أن اتحدوا، وتنافسوا بشرف، واعلموا أن المناصب الانتخابية لا يمكن أن تسع الجميع.
جاء الرئيس إلى ولاية الترارزه ليخاطب مواطني بلده من مدينة يريد لها أن تكون عاصمة الاستقلال الاقتصادي، ورائدة السيادة الغذائية. جاء الرئيس ليسدد بدقة رسائله بشأن الزراعة والبنية التحتية، وليخاطب بوضوح وتواضع، وقوة، كل الموريتانيين، وبعض العالم، ويخص الأسرة الزراعية بحديث يناسب المقام، والمكان.
كانت الرسالة الأولى تلك التي حملها اجتماع الوزراء مرتين في يوم واحد، فبعد أن اجتمعوا في قاعة مغلقة لساعات وهم يتدارسون القرارات التي ستتخذ في هذا الحدث الاستثنائي، قادهم الرئيس بنفسه، ليجلسوا ويسائلهم المواطنون مباشرة عن عملهم، وعما قدموا للوطن والمواطن.
خاطب الرئيس بقية مدن الوطن من روصو معلنا أنها ستشهد اهتماما مماثلا، وستوضع مقدراتها على طاولة البحث، وسيتم رفدها بالقرارات المناسبة، وسترصد التمويلات لاستخراج تلك المقدرات، ولإفادة الوطن منها، في نهضة التحول التي يجري العمل عليها بهدوء.
بمعنى أوضح؛ سيكون لكل جهة من جهات الوطن حضورها النهضوي، وإسهامها التنموي من خلالها استثمار مقدراتها الخاصة؛ زراعة، أو تنمية حيوانية، أو صيدا، تعدينا، سياحة، ... إلخ
كانت الرسالة الثانية خاصة بالأسرة الزراعية، وفيها تجلى بوضوح معنى السيادة والاستقلال في خطاب الرئيس؛ فلا استقلال إذا كنا نعتمد في غذائنا على ما ينتجه الآخرون، ولا معنى للسيادة إذا كانت أقواتنا مرهونة باستقرار دول الآخرين، وخمود حروبهم، وانعدام الأوبئة في أوطانهم، ولا أثر للسيادة والاستقلال إذا لم تكن مقدراتنا البشرية وثرواتنا الطبيعية، وسيلة لريادتنا في المنطقة والعالم.
خاطب الرئيس الأسرة الزراعية قائلا إن كل أعضائها مهمون بإسهامهم النوعي كل من موقعه؛ فالمستثمر الذي يجلب التمويل لا غنى عنه، والمزراع الواقف بمنجله هو سيد الزراعة الذي لا تكون بدونه، وصاحب الأدوات المقشر، والتاجر البائع المشتري، والمجتمع الحاضن، ومالك الأرض، كل أولئك في شرعة الزراعة أركان أساسية تتكامل أدوارهم، في صناعة التنمية وريادة النهضة.
كان الرئيس واعيا بأن حماس اللحظة، وضغط الموقف، يجب ألا تعني التصريح بما يناقض قيم الإنصاف، أو يخرم حماية الدولة للجميع؛ فشدد على احترام الدولة للملكية العقارية الثابتة بالشرع والقانون، ولكنه كان واضحا في ضرورة أن لا تقف أي ملكية في وجه استغلال الأرض، والاستفادة من غلتها.
لم يستبق الرئيس الأحداث، ولم يعتسف في الإعلان عن الإجراءات، بل اختار طريقا واضحا للمؤسسية، وسيادة القانون، حين وجه إلى وزارتي الزراعة والمالية بضرورة البحث عن حلول تحترم الملكية وتضمن الاستفادة من الأرض.
القرارات الخمسة التي أعلن عنها وزير الزراعة بين يدي رئيس الجمهورية كانت الرسالة الأبلغ بشأن السيادة الغذائية.
تغطي القرارات الخمسة خريطة المطالب المتشعبة المتعلقة بالزراعة؛ فمن الإعفاء الجمركي لآليات الري، والآليات المستخدمة في الزراعة، والأسمدة والبذور، وكل المدخلات الزراعية، إلى إعادة الاعتبار للبحث العلمي، والتكوين والتأطير الزراعي، إلى ميكنة الزراعة المطرية، وبناء السدود (40 سدا لهذا العام) إلى دعم التعاونيات الزراعية، سيجد المزارعون دولة راعية مواكبة تخلق لهم الظروف المواتية لنهضة زراعية وتأخذ بأيديهم إلى طرق العمل الأكثر نجاعة.
أما الرسالة الأبلغ فتلك التي حملتها كلمة رئيس الجمهورية بشأن زراعة القمح؛ فهذه السلعة الاستراتيجية تمتلك طاقة الأسلحة الثقيلة، وتعد الدول المنتجة لها مالكة مفاتيح الاقتصاد العالمي. إن حديث الرئيس غزواني عن مشروع زراعة القمح حديث في المناطق العليا من سلم سيادة الأمم، فمن بين كل السلع الغذائية يحمل القمح بعدا رمزيا خاصا، جعله السلعة الأعلى قيمة رمزية بعد الطاقة. وإذا استطاعت بلادنا أن تغطي منه حاجتها إلى جانب الأرز، إضافة إلى استثمار مخزون الطاقة، فستملك مفاتيح الريادة في المنطقة.
يمكن القول إن انتقال الحكومة لعقد مجلسها الأسبوعي في عاصمة ولاية الترارزة يمثل حدثا في حد ذاته يشد أنظار الجميع إلى تلك المدينة النائمة على ضفة تتدفق منها الحياة لبلادنا ودول المنطقة، ويضع التنمية المحلية، وقطاع البنية التحتية في بوابة غرب إفريقيا على العالم العربي، في سلم أولويات الحكومة، ولكن هذا الشيء على أهميته ومصيريته، يبدو محدودا جدا إذا ما قورن بالأبعاد الاستراتيجية التي أعطاها حديث الرئيس وقراراته للزيارة.