إن إيثار شخص ما بمنصب عام مراعاة للونه أو جنسه أو حالته البدنية (معاق) غير جائز في الشرع، ولا يبعد أن يكون فاعل ذلك من الآثمين، وذلك للاعتبارات الآتية:
1. المعيار الوحيد الذي يختار على أساسه المرشح هو معيار الصلاح، والمقصود بالصلاح أن يكون الإنسان صالحا للعمل الذي ينتدب له، بل يجب أن يكون أكثر صلاحية من غيره، ففي حال اختيار المرشحين وانتخابهم يجب اختيار المرشح الأصلح ذي الكفاءة والنزاهة، وذلك بتقديم المرشح الذي هو أقوى من غيره وأقدر على تأدية المهام المنوطة به، هذا مع مراعاة الأمانة كذلك، "فالقوة" و"العلم" و"الأمانة" معايير قرآنية جاء التذكير بها في معرض المآجرة والتكليف، قال الله تعالى: -حكاية عن بنت شيخ مدين- {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين}، وقال عز وجل -حكاية عن يوسف عليه وعلى نبينا السلام-: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. يقول القرضاوي رحمه الله: "أما المرشح فيجب أن يكون "حفيظا عليما" أو "قويا أمينا"، وإلا فسح المكان لغيره، وإهمال هذا المبدأ يعجل بنهاية الأمة كما في الحديث: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة. فتولية الشؤون العامة تقتضي التسلط على حقوق المسلمين ضعفيهم وقويهم فقيرهم وغنيهم صغيرهم وكبيرهم؛ لذلك يجب الاحتياط لها وأن يختار لها من كان أصلح وأحسن من غيره، فالله سبحانه وتعالى أمر من يتولى أمر أموال اليتامى ألا يقربها إلا بالحيطة والقربان الأحسن، فقال عز شأنه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }. ففي هذا أمر من يتولى شأن مال اليتيم أن يعمل فيه الطريقة المثلى، والتي لا يعلم أحسن منها ولا أكثر سدادا لمال اليتيم منها. يقول ابن تيمية: " فإن وصي اليتيم، وناظر الوقف، ووكيل الرجل في ماله؛ عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }. ولم يقل إلا بالتي هي حسنة ". وقد ذكر القرضاوي حفظه الله ذات المعنى الذي ذكره ابن تيمية، وتكلم بذات الفكرة، فقال: "فلو كانت هناك طريقتان لتنمية مال اليتيم إحداهما حسنة، والأخرى أحسن وأفضل منها، لم يجز تنميته إلا بالتي هي أحسن". وإذا كان هذا في مال يتيم واحد أويتامى معينين فما بالكم بمن يسير أموال المسلمين جميعا! ومعلوم أن لليتيم وغيره من الضعفاء والفقراء ومن لا يقوم بحق نفسه من السفهاء والمجانين حظهم فيها، وقد انتبه العز ابن عبد السلام إلى هذه الملاحظة -أعني ملاحظة كون مراعاة الأصلح والأنفع لما كانت مطلوبة في المصالح الخاصة فمن باب أحرى كونها مطلوبة في المصالح العامة- فذكر أن المتصرفين في المصالح العامة يجب عليهم اختيار الأصلح والأنفع، وأن الوكيل والوالي لا يجوز له أن يتصرف في المصالح العامة كما يتصرف في ماله على سبيل التوسع والخيرة، بل إنه ملزم باختيار الأصلح ولابد، ذلك أن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة... يقول العز بن عبد السلام: "يتصرف الولاة ونوابهم بما ذكرنا من التصرفات بما هو الأصلح للمولى عليه درء للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد، ولا يقتصر أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح إلا أن يؤدي إلى مشقة شديدة، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم مثل أن يبيعوا درهما بدرهم، أو مكيلة زبيب بمثلها لقول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }. وإن كان هذا في حقوق اليتامى فأولى أن يثبت في حقوق عامة المسلمين فيما يتصرف فيه الأئمة من الأموال العامة؛ لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة، وكل تصرف جر فسادا أو دفع صلاحا فهو منهي عنه، كإضاعة المال بغير فائدة".
2. المصالح العامة يطلب لها الأفضل والأحسن، فلا يجوز الاختيار فيها بين الحسن والأحسن، بل يلزم فيها الأخذ بالأحسن وفي هذا إذا كان الشخص أحق من غيره لكفاءته وفضله يلزم تقديمه على غيره بغض النظر عن أوصافه وخصوصياته التي لا تعلق لها بكفاءته فيما يطلب له من وظيفة، فلا عبرة بالصفات الإنسانية الخلقية أو الجبلية إلا ما كان منها معينا على تأدية الوظيفة المرشح لها؛ لذلك كان اعتبار الشجاعة والقوة الجسدية مؤثرا ومطلوبا في شأن الحرب؛ فقد ورد الثناء على طالوت، وجاءت تزكيته لقيادة بني إسرائيل بصفات منها وصف خلقي يؤثر اعتباره في شأن الحرب، قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 247] قال الزمخشري: "والظاهر أن المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب. ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها. وقيل: قد أوحى إليه ونبئ، وذلك أن الملك لا بد أن يكون من أهل العلم، فإن الجاهل مزدرى غير منتفع به، وأن يكون جسيما يملأ العين جهارة لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب. والبسطة: السعة والامتداد. وروى أن الرجل القائم كان يمد يده فينال رأسه".
3. وكذلك فإن مبدأ الكفاءة والأخذ بالأفضل يقتضي أن يكون التمييز -إذا كان- إنما يكون في حق الأفضل والأحسن، وذلك بالنظر إلى ما قدمناه من وجوب مراعاة معيار الأفضل والأحسن في الشأن العام.
4. أن التمييز الإيجابي هدفه إلحاق شخص بمنزلة أو مستوى عجز عن نيله بنفسه، وهذا يعني أن به نوع عجز وضعف أقعده عن اللحاق بغيره؛ ومن كانت هذه حاله لا يجوز تقديمه لمصالح المسلمين ولا اختياره لها فالضعف مانع من تولي الولايات العامة والخاصة في الإسلام قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا فَلَا تُأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تُوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ». وتشتد حرمة هذا التقديم إذا كان الضعيف مقدما على غيره من الأقوياء وممكنا بتأخير الأقوياء الأكفاء، ومثل هذا من أشد أنواع الخيانة قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "من استعمل رجلا من عصابة و فيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله و رسوله و المؤمنين" أخرجه الحاكم في المستدرك و قال : صحيح الإسناد ويشهد له حديث أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا حتى يدخله جهنم " أخرجه الحاكم و قال صحيح الإسناد ورواه أحمد.
5. أننا أمام نظرين: النظر لمصلحة المنصب وهي مصلحة عامة والنظر لمصلحة الشخص المعين وهي مصلحة خاصة؛ ومعلوم أن النظر للمصلحة العامة مقدم على النظر الخاص، فكان النظر إليها أولى من النظر الخاص، وحتى لو اعتبرنا أن النظر الى فئة معينة (نساء أو معاقين.. الخ.) يعتبر عاما بحكم أنه لا يستهدف شخصا معينا فإنه يبقى في حكم الخصوص بالنسبة إلى ما هو أعم منه؛ لذلك فإن تقديم فئة أو أشخاص معينين ليسوا أمثل من غيرهم لتولي المناصب أو الوظائف العامة فيه ظلم وخيانة للعموم.