كتب الدكتور المرسي محمود شولح لموقع الفكر
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
الوجود في الأزمات لا يعنى افتقاد الناس أسباب النجاة، وخلو الحياة من حبال الإنقاذ الممدودة وفى الوقت نفسه المصروف عنها الناس للتصورات السطحية والنظرات المادية
فإن مع الأزمة أسباب النجاة منها . فقد دخل أصحاب الغار الأزمة بأرجلهم، ومعهم في بواطنهم أعمالهم التي تخلصهم منها ، وإن كان في ظاهرهم إفلاس ، فإن في باطنهم البر والعفة والأمانة .
ففي الحديث : "فقالوا : إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم" ،
فالرهط دخلوا مكان الأزمة ، و في داخلهم وبواطنهم أعمالهم المنجية لهم ومن أزمتهم .
والحديث الشريف يضع للمجتمع التصور الرشيد للأمن ، وطريق تحقيقه وبلوغه .
وحديث الرهط الذين انحدرت عليهم الصخرة من أعلى الجبل يظهر ثمرة العمل الصالح بعد الإيمان بالله تعالى في تحقيق الأمن بجميع مجالاته،فالأعمال الصالحة تحقق الأمن ، وترسى معالم الاستقرار والاطمئنان في المجتمع .
فبر الوالدين يحقق الأمن في العلاقات الأسرية .
والعفة تحقق الأمن في العلاقات الاجتماعية .
والأمانة تحقق الأمن في العلاقات الاقتصادية والسياسية .
فالأعمال الصالحة لها آثارها في استقرار المجالات ، والعلاقات المجتمعية المختلفة .
وفى شأن قصة أصحاب الغار كان الإسقاط بموضوعية بعيداً عن التكلف والمبالغة فى تحليل الحديث وفى إسقاطه على الحياة المعاصرة,
وأزمة المجتمع في الواقع المعاصر تحتاج إلى معالجتها من أكثر من جانب ,وتأتي الوقائع الإسلامية لتحقيق هذه المهمة بصورة واضحة.
وحادثة أصحاب الغار تكشف للمجتمع دور الأخلاق والجهود الفردية, والتعاون والتكامل , والثقة في الله , والإحسان,وكشف الطاقات المدفونة , والتحليل الجيد للأزمة , والاتفاق حول جوهرها , وعدم تعد الآراء حولها, وتفسيرها تفسيراً شرعياً بعيداً عن التفسير المادي والطبيعي وتوزيع الأعمال على أبناء المجتمع , والمشاركة البناءة , والإسلام الإيجابي , وعدم التقوقع على الذات , وتفريغ الذهن من قضايا الإصلاح , وغير هذا من القضايا فقد أبرزها الحديث وعنى بها عناية مباشرة , وهذه الأمور لها أدلتها الواضحة والمحددة في سياق الحديث, وتعطي دلالة على غنى القضايا والحوادث الإسلامية بمناهج إصلاح المجتمع
والمجتمع المعاصر في أمس الحاجة إلى هذه الجوانب للإصلاح وتحقيق مقومات الإصلاح في الأرض.
الغار والأعمال:
حوى الرجال داخل الغار أعمالاً من البر بلغت أعلى درجات الإحسان والإتقان ، فالنظرة إلى الغار ليست محدودة ،إنما نظرة رحبة وواسعة ، فالضيق عند المجاهرة بالمنكرات خارج الغار ، والسعة في داخله عند وجود خبيئة العمل الصالح ، والظلام عند ظهور الفساد خارج الغار، والنور في داخله ، والجهل عند وجود الفواحش خارج الغار ، والعلم في داخله ، والفارغون عند ضياع الهدف وفقد الرؤية خارج الغار ، والرجال في داخله .
فليس الغار ضيقاً ولا مظلماً ، إنما بالرجال فيه . وبالأعمال التي ذكروها يكون الغار منجم الإيمان ومحك الرجال ، ومنبع الفضائل والفوائد .
وقد صورت الصخرة الصماء التي ليس عليها باب ولا كوة إخفاء الإنسان العمل ، وعدم اطلاع الناس عليه .
ومهما اجتهد الإنسان في إخفاء عمله الصالح أو السيئ ، وغيبه عن الناس لإيثاره رؤية الله للعمل إن كان صالحاً ، ولخشيته من معرفة الناس بسوء عمله إن كان فاسداً، فإن الله تعالى يكشف العمل للناس ، ويبلغه غيره مهما كان شأنه ووضعه .
فالأعمال المستورة ، والأحوال المخبوءة يأتي وقت لكشفها ، وتتجمع أسباب بعينها لإبرازها، ومن ذلك وجود الأزمات، فهي من دواعي كشف الأعمال ، وإظهارها للناس .
وربما كانت هذه الأعمال تظل مخفية لا يعلمها إنسان ولا يطلع عليها مخلوق، ولا تكشف للتاريخ ، لكن قدر الله إظهارها ، وكانت حكمته سبحانه في معرفة الناس بها عن طريق دخول أصحاب الغار بأرجلهم في الغار ، والذي ترتب عليه إخراج المكنون ، وكشف المستور ، وإعلان المخبوء .
والأخلاق لها تأثيرها فى الماديات ،فالصخرة المنطبقة على فم الغار لم تنفرج بالوسائل المادية، ولم تفتت بالأجهزة الحديثة ، وإنما كان انفراجها بالأعمال الصالحة ، فالأعمال تؤثر في الماديات ، ويتجاوز أثرها المعلوم والمفهوم إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى .
و أصحاب الغار أصحاب أقدار وأحوال ،وضربوا أعلى الأمثلة فى تقديم الأعمال الصالحة لكل المجتمعات التى غيبتها مظاهر الحضارة الحديثة ووسائل الإلهاء المعاصرة عن القيم والسلوك ، فكان الغار الضيق بما فيه من قيم وأخلاق أوسع من الحياة المعاصرة بما فيها من مظاهر فاتنة وألوان فارغة غذت الشق المادى للإنسان وخربت الشق النفسى والروحى
وما أحوج الحياة المعاصرة إلى الوعى بأثر القيم والأخلاق فى الظفر باللذة الحقيقية والمتعة الفعلية،وأن الصخب فى الحياة المعاصرة والتلوث الخلقى والإقبال على عوادم الحضارة ونفايات المادية لا يحقق التوازن النفسى فى سير المجتمعات