منذ عقود استقرت المسيرة اليومية للرجل القرآني أحمد بن محمدن بن داداه من منزله إلى المسجد، أو من منزله إلى مكتبه في مقر حزبه التي تغيرت ملامحه كثيرا، وأثرت عليه عوامل الزمن، كما أثرت على الزعيم نفسه الذي يخطو بتوأدة وهدوء حاملا على كاهله أثقال النضال لأكثر من ثلاثة عقود ضد ما يرى أنه الديكتاتورية التي تقدمت إلى الحكم بدراعة مدنية تحتها بزة عسكري صارم.
في حدود العام 1942 وفي بوادي بوتلميت ولد أحمد ولد داداه لوالدين كريمين هما محمدن بن داداه وحفصة بنت باب ولد الشيخ سيديا، ودرس سريعا في مدارس أبناء الشيوخ قبل أن ينتقل إلى السنغال ومنها إلى فرنسا، حيث كان تخصصه الاقتصاد.
ينتمي أحمد ولد داداه إلى الجيل الثاني من سياسيي فترة الاستقلال، حيث أكمل دراسته الأكاديمية العالية عقد الستينيات، قبل أن يلتحق بالعمل الحكومي محافظا وزيرا، وأول محافظ للبنك المركزي في موريتانيا، ومديرا لشركة سونمكس، كان أخوه الكبير المختار ولد داداه يعتبره عنصرا مشاكسا، ويطلق عليه لقب زعيم المعارضة الديمقراطية.
بعد نظام المختار ولد داداه، تنقل أحمد بين محطات متعددة سجينا سياسيا ولاحقا موظفا دوليا، وخلال إقامته الجبرية الاضطرارية في بوتلميت لمدة أربع سنوات، أعاد ولد داداه تثبيت حفظه للقرآن الكريم، واستقرت علاقة قوية بين الرجل والذكر الحكيم، جامعا بين إشراق ديني عميق، وليبرالية اقتصادية عميقة أيضا، لاحقا سيعود ولد داداه يحمل في حقيبته رؤية اقتصادية وطموحا سياسيا لحكم البلاد.
من الجبهة إلى عهد جديد...هكذا انطلق مسار المعارضة الديمقراطية
يحمل ولد داداه لقب أول زعيم للمعارضة الديمقراطية في البلاد، لكن شرارة المعارضة انطلقت بشكل فعلي منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المختار ولد داداه، حيث تعاقبت على كراسي المواجهة مع النظام عدة حركات سياسية، واجهت الأنظمة العسكرية المتعاقبة بكثير من الصراع والصدام، خلال عشرية الثمانينيات برزت أسماء تيارات سياسية مثل الناصريين والبعثيين، إضافة إلى قادة حركة أفلام، وتيار الإسلاميين، إضافة إلى قوى شبابية يسارية قوية مثل حركة الديمقراطيون المستقلون.
مع منعطف 1989 بدأت الكتل السياسية تتجه إلى التجمع ومع بداية 1991 كانت المعارضة قد شكلت الجبهة الديمقراطية الموحدة للتغير الديمقراطي FDUC، التي ضمت مختلف القوى السياسية المناوئة للرئيس السابق معاوية ولد الطايع، حزب اتحاد قوى القوى الديمقراطية.
في هذه الأثناء بدأ البحث عن رأس سياسي قوي يمكن أن تتم من خلاله منازلة ولد الطايع، تحركت رؤوس من الحركة الوطنية الديمقراطية/ MND
ويشاع على تطاق قريب من التواتر أن السياسيين اليساريين ببها ولد أحمد يوره وموسى افال هما من أقنع الرئيس أحمد ولد داداه بالترشح، وأعاداه إلى البلد من عمله ممثلا للبنك الدولي في جهورية وسط إفريقيا.
وقد توفرت في أحمد ولد داداه يومها عدة ميزات تنافسية، من بينها:
- رمزيته كأخ أصغر للرئيس الأسبق المختار ولد داداه.
- ومنها كونه أحد المعارضين الأساسيين لنظام العسكر منذ العام 1978،
- خبرته الاقتصادية وكفاءته الإدارية، مما جعل تسويقه أمرا غير صعب جدا إلا في حدود ضيقة، إذا استعرضنا الخلافات الإيديولوجية القليلة التي قد تجعل حركة الحر مثلا أو بعض عناصر الحركة الوطنية الديمقراطية غير متحمسين في البداية لشخص أحمد ولد داداه، وكذا كتلة الوزراء السابقين الذين عملوا مع أخيه المختار ولد داداه لكنه في النهاية نال إجماع المعارضة وأصبح مرشحها الأبرز لمقارعة الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع.
الرئيس المظلوم.. والمعارض الراديكالي
خاض ولد داداه رئاسيات 1992، مدعوما من قوى سياسية متعددة، واستطاع انتزاع 32% من الأصوات التي اعترف له بها النظام الذي لجأ إلى التزوير بشكل كبير، باعتباره الخيار الثاني الذي استقر عليه النقاش داخل الكتلة الصلبة للنظام بدلا عن إلغاء الانتخابات الذي كان القرار الأول بالنسبة للرئيس معاوية ولد الطايع
أما أنصار أحمد ولد داداه يومها فيجزمون بأن الرجل فاز في الشوط الأول بنسبة تقترب من 60%، وكانت تلك آخر فرصة له في الفوز في الرئاسيات.
تمسك ولد داداه بحلم الرئاسة لعدة سنوات، وأصر طيلة سنوات أخرى على مقاطعة الانتخابات أملا في ارغام الرئيس معاوية ولد الطايع على إعادة الانتخاب او حتى مغادرة السلطة
عهد جديد ..حزب المعارضة الأول
بعد الانتخابات الرئاسية بدأت الجبهة في إعادة ترتيب بيتها الداخلي، وسرعان ما انحاز عدد من عناصرها وأسسوا حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم بقيادة المرحوم حمدي ولد مكناس الذي انسحبت نحوه مجموعة الوزراء السابقين، لاحقا سيعاد تأسيس حزب اتحادقوى الديمقراطية ليحمل اسم حزب اتحاد القوى الديمقراطية/ جديد، حيث تولى فيه أحمد ولد داداه منصب الرئيس العام خلفا للوزير السابق محمذن ولد باباه الذي تنازل لولد داداه عن الأمانة العامة للحزب.
لتعاد الهيكلة فيصبح أحمد بن داداه رئيسا للحزب، ومسعود بلخير أمينا عاما له.
وبعد انتخابات 1994 بدأت الأزمات الداخلية تنخر الحزب، وسرعان ما غادرته حركة الحر برئاسة أمينه العام مسعود ولد بلخير، الذي أسس لاحقا حزب العمل من أجل التغيير AC، بخطابه المجتمعي الراديكالي.
خرجت من الحزب أيضا أفواج متعددة المشارب والوجهة، وسرعان ما توترت العلاقة بين ولد داداه والحركة الوطنية الديمقراطية بقيادة المرحوم محمد المصطفى ولد بدر الدين، ونازعته في الشرعية، لينشق الحزب إلى فريقين أحدهما يحمل الحرف (أ) بقيادة ولد داداه، والثاني الحرف (ب) بقيادة بدر الدين
ومع حل الحزب سنة 2000، بعد موقفه القوي ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، أعيدت تسمية الشطرب، ليحمل اتحاد القوى الديمقراطية.
خلال هذه الحقبة عانى الرئيس أحمد ولد داداه من اعتقالات واسعة مرة في بومديد، ومن مضايقات متعددة، وظل صامدا يواجه النظام بقوة، كما أن موقعه وموقفه السياسي مثل حالة توازن قوية في مواجهة نظام كان يوصف من جهات متعددة بالفساد والديكتاتورية.
تواصلت حمى الانسحاب مجددا مع خروج الجماعة الناصرية سنة 2003 ودخولها في حوار سياسي مع حركة الحر انتهى إلى الاندماج في حزب التحالف الشعبي التقدمي الذي كان يمثل يومها الشرعية السياسية للناصريين، ولاحقا سيخرج الإسلاميون أيضا سنة 2003، متوجهين إلى التحالف السياسي الذي رشح الرئيس الأسبق محمد خونه ولد هيدالة.
التكتل.. من التمدد إلى الانحسار
مع نهاية العام 2000 نال حزب تكتل القوى الديمقراطية برئاسة محمد محمود ولد لمات الترخيص وخاض بعد ذلك انتخابات 2001 التي نال فيها ثلاث بلديات في العاصة هي عرفات وتيارت وتوجنين وذلك بعمده الثلاث محمد جميل ولد منصور- محمد سالم ولد بمب- وعلي ولد الرحيل.
ونافس بقوة في تفرغ زينة ولكصر وفي بعض الدوائر مثل بوتلميت..
كما نال مقعدين برلمانيين للنائبين محمد محمود ولد لمات والعالم ولد أحمد يعقوب، لاحقا سيتم اختيار أحمد ولد داداه رئيسا للحزب، وليترشح باسمه لرئاسيات 2003، حيث حل ثالثا بين مرشحي المعارضة، وإذا كان مؤتمر التكتل الأول قد نظم في حدود 2001، فإنه احتاج سبع سنوات أخرى لينظم مؤتمره الثاني في العام 2008، دون أن يتمكن من عقد مؤتمر عام بعد ذلك.
وفي العام 2005 وبعد رحيل نظام ولد الطايع، استقبل التكتل أفواجا من القادمين من الحزب الجمهوري وترشح عدد منهم من تحت عباءاته، وزادت قوة وجماهيرية الحزب الذي كان رأس الحربة في مواجهة ولد الطايع.
وفي رئاسيات 2007، كان مرشح التكتل الجهة الأقوى في المعارضة حيث نال في النهاية 47% من أصوات الناخبين في الشوط الثاني مدعوما بمختلف قوى المعارضة وكثير من رجال الأعمال وجزء مهم من المجلس العسكري الحاكم.
وخلال فترة 2008 نشط الحزب بقوة في المعارضة، قبل أن يضفي مستوى من الشرعية على انقلاب 2008 الذي أطاح بالرئيس المرحوم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في تغيير عسكري وصفه رئيس التكتل يومها بأنه حركة تصحيحية.
ويرى المقربون من الحزب أن سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله ما كام لينجح لو االدعم والتدخل المباشر من طرف المجلس العسكري الحاكم ساعتها.
كان ولد داداه يتوقع أن الانقلابيين سينظمون انتخابات ديمقراطية – كما تعهدوا له- ويغادرون السلطة، وسرعان ما تبين له أن الأمر خلاف ما توقع، وكانت ضريبة التراجع عن دعم الانقلاب قاسية جدا، وأدت إلى خروج عدد من قادة وجماهير الحزب باتجاه النظام وتراجع الحزب بشكل كبير.
في رئاسيات 2009 نال ولد داداه دعما سياسيا وماليا كبيرا من قوى معارضة ومجتمعية لكنه حل في الرتبة الثالثة ب 14 % من أصوات الناخبين، وتشبث ساعتها برفض نتائج الانتخابات.
خلال هذه الفترة بدأت رياح الانحسار تهب على الحزب، وبدأت الضغوط القوية من النظام تنهال عليه، ليتراجع بشكل كبير أيضا في نيابيات 2018 بعد مقاطعته لنيابيات 2018.
في سلسلة من المقاطعات في الأعوام 1992-1997-1999-2013، رى كثيرون أن المعارضة أخطأت حين قاطعت الانتخابات مما أفقدها الكثير من شعبيتها.
ومع بداية النهاية لنظام ولد عبد العزيز، بدأت أطراف وازنة في الحزب تدفع باتجاه دعمه للرئيس الجديد محمد ولد الشيخ الغزواني الذي كان يتمتع بعلاقات ود وصداقة خاصة مع ولد داداه، وتؤكد مصادر متعددة أن الحزب كان قد حسم قراره بالانتقال إلى صف داعمي ولد الشيخ الغزواني، لولا أن هذا الأخير طلب من ولد داداه لقاء الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، وهو الطلب الذي رفضه ولد داداه بقوة، وأدى في النهاية إلى عدم دعم التكتل لولد الغزواني، إلا أنه تسبب في مغادرة قوة أساسية من الحزب بقيادة نائب رئيسه محمد محمود ولد لمات الذي كان من أبرز المعارضين المنتقلين إلى صف ولد الغزواني، وتوجه التكتل إلى دعم مرشح اتحاد قوى التقدم محمد ولد مولود وعجز الحزبان العريقان عن الوصول إلى عتبة 3% من اصوات الناخبين.
التكتل.. معارضة للنظام وموالاة لولد الغزواني
لم يخف التكتل سعيه الحثيث إلى مستوى من التقارب مع نظام الرئيس الغزواني، كما لم يخف ولد الشيخ الغزواني مستوى عاليا من تقدير رئيس التكتل، إلا أن أطرافا في التكتل وأخرى في النظام لم يرق لها التقارب، فكانت قوى شبابية فاعلة في التكتل ترى في نظام ولد الغزواني امتدادا للأنظمة العسكرية التي سبقته، وكان في مستشاري ومقربي ولد الشيخ الغزواني أيضا متربصون لا يرحبون بالقادمين إلى الأغلبية.
وباستثناء لقاءات ودية جدا، فإن العلاقة بين الطرفين لم تثمر كثيرا، قبل أن ترفض أو تؤجل أغلبية الحزب مسار الانتقال إلى الأغلبية وإبرام اتفاق تعاون مع حزب الإنصاف إلى أجل غير مسمى.
أزمة الترشيحات
كانت ترشيحات الحزب الأخيرة ومواقفه من النظام بوابة لعبور عدد من الخلافات المزمنة، وكان إبعاد بعض الوجوه ذات الزخم الإعلامي سببا في استقالات متواصلة من الحزب الذي تضاءل بشكل كبير خلال السنوات المنصرمة، حيث استقالت من الحزب قياديته الشهيرة منى منت الدي كما غادره المحامي ابراهيم ولد الدي، كما غادره البرلماني العيد ولد محمد، بسرعة ولم يودع الحزب الذي منحه الثقة ودفع به إلى البرلمان.
وأظهرت الترشيحات ضعفا شديدا في الهياكل المحلية للحزب وغيابا له في مختلف مناطق البلاد، حيث رشح الحزب في 4 مجالس جهوية من أصل 13 مجلسا بلديا و25 لائحة بلدية من أصل 238 بلدية.
ويعاني الحزب حاليا من حالة انحسار قوية تدفع إليها عوامل متعددة منها:
- ضعف شديد في المؤسسية داخل الحزب، وتمركز مساره السياسي حول رمزية قائده وزعيمه أحمد ولد داداه، رغم أن ولد داداه دأب على عدم إصدار أي اعتراض عندما تلتئم كلمة أغلبية الحزب أو لجنته التنفيذية على كلمة سواء، وقد أدى غياب المؤسسية في الحزب، إلى ضعف شديد في هيئاته الفرعية، وفيدرالياته التي لا يوجد لها أي نشاط سياسي أو إعلامي باستثناء فيدراليته في ولاية نواذيبو، ذات النشاط القوي والفعال.
- وجود كتلة صلبة تحيط بولد داداه وهي مصدر الحسم والقرار وصناعة توجهاته العامة ومن أبرز عناصرها المحامي يعقوب جالو، والمحامي يرب ولد أحمد صالح، والقيادي في الحزب الإمام الشيخ ولد أحمدو، والقيادي في الحزب عبد الرحمن ولد ميني، إضافة إلى قوة شبابية مؤثرة.
- ضعف الموارد المالية للحزب: الذي عانى طوال مساره السياسي من الحصار والمحاربة من الأنظمة، مما نفر منه رجال الأعمال، ويشيع على نطاق واسع أن الرئيس أحمد ولد داداه كان الممول الأساسي لحزبه إضافة إلى بعض الداعمين الآخرين.
- حالة من المبدئية والصرامة عند رئيسه أحمد ولد داداه تمنعه دائما من الدخول في مفاوضات أو إقامة صفقات سياسية أو مالية مع أطراف وطنية أو دولية، ويرى مراقبون في التكتل إن تلك المبدئية تضيع على الحزب غالبا فرصا سياسية مهمة.
- راديكالية شعورية: تؤطر مسار الحزب، وتقيم له في أذهان قادته وأنصاره وزنا وهميا لا يتناسب مع الواقع، حيث يعيش أغلب قادته على وهم أبوة التكتل لمختلف المعارضة، وعلى أوهام الالتفاف الجماهيري حول رمزية الرئيس أحمد ولد داداه.
- خلافات حادة وقوية داخل منظمته الشبابية وضعف شديد في أداء منظمته النسائية.
- تقاعد سياسي لأغلب قادته التاريخيين بسبب المرض أو التقدم في السن، حتى إن نواب رئيس الحزب ربما تمر عليهم الليالي ذوات العدد دون أن يحضروا اجتماعا واحدا في الحزب..
ولا تبدو حظوظ الحزب قوية في الانتخابات القادمة، رغم أنه من المستبعد أن يعجز عن تحقيق مقاعد محدودة في البرلمان في اللوائح الوطنية أو الجهوية أحدهما أو كلاهما، وفي ذلك انحسار مرير لحزب المعارضة العريق الذي يأخذ كثيرا من سمات رئيسه في نظافة اليد، وبساطة المظهر، وصدق العاطفة وعمق الولاء السياسي للبلد، والبعد عن ألاعيب السياسة، وتوقع الصدق في غير محله، ويتشابه مسار الحزب مع مسيرة الرجل، حيث كان قويا براقا مثل صورة ورمزية الرجل وهو يخوض حملات التسيعينات بوسامة وعزيمة الشباب.. وهاهو اليوم يخطو وئيدا بشيبة ووقار ولد داداه