[ملاحظة: حررت هذه المقالة تقديما لكتاب الباحث اليمني مجيي الحميدي "فقه الغناء والمعازف عند الإمام الشوكاني" بتاريخ الخميس 10 جمادى الآخرة 1427 هـ - 6 يوليو 2006 م]
كان فيلسوف الإسلام الشاعر إقبال يقول: "إن جفاف المنطق لا يقوى على مقاومة نضرة الشعر". وقد أراد إقبال بمقولته هذه عن الشعر والمنطق أن يعرِِّفنا على أن الشكل الذي تُقدَّم فيه المبادئ ليس أمرا ثانويا. فكم من حقيقة ناصعة ضاعت بسبب سوء عرضها على الناس، وكم من باطل مكَّن له دعاة مهَرة. وقديما قال أحد الشعراء:
في زخرف القول تزيينٌ لباطـله والحق قد يعتريه سوء تعبـيرِ
تقول هذا مُجاج النحل تمدحـه
وإن ذممت فقل قيء الزنـابـيرِ
مدحًا وذمًّا وما غيَّرتَ من صفةٍ
سحر البيان يُرِي الظلماءَ كالنورِ
فليس كالفن والجمال حاملا لرسالة الحق والخير، إذ الفن –شعرا كان أو غناء- دفقات من الوجدان وومضات من العبقرية، لا تراود الأذهان عبر دروب متعرجة من المقدمات المنطقية الجافة والاستدلالات التجريدية الباردة، وإنما تغزو الوجدان غزوا، فتقذف فيه رسالتها وتأخذه بوهجها الآسر..
وفن الغناء بالمعازف من الفنون التي كثر حولها الجدل في تاريخنا الفقهي، فشاع في أمرها فقه التحفظ وسد الذرائع، لسبب وجيه ولغير سبب، وطغى فيها ما دعاه أخونا مؤلف هذه الدراسة ببلاغةٍ "الورع البدعي". وهذا الورع البدعي -الذي لا ينبني على رجحان الأدلة- ليس مما ينتسب إلى الحنيفية السمحة بنسب عريق، وإنما هو فرع من رهبانية أهل الكتاب وتنطعاتهم في الدين. وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع مسالك أهل الكتاب، لا في تفلتهم من قيود شرعهم فقط، وإنما في تنطعهم وتكلفهم البدعي. فاتباع أهل الكتاب يكون في التضييق قبل التوسعة، كما يوحي به مجاز "جحر الضب" الوارد في حديث التحذير من اتباعهم.
وهذه دراسة رصينة، أخذت من أهل الحديث صرامةَ النقل والتحقيق في الرواية، وأخذتْ من أهل الفقه الغوصَ على المعاني، والتدقيق في دلالات الألفاظ، والتوفيق بين النصوص دون بترها من سياقها أو ضرب بعضها ببعض.. يقدم فيها الأستاذ مجيب الحميدي رؤية شرعية أصيلة حول فقه الغناء والمعازف، مبناها سبر المسائل الشرعية بالدليل المجرد، وسعة الاستقراء في عرض الآراء المتباينة، دون تقيد برأي فقهي سائد، أو رهبة من ذوق جماعي مسيطر.
وقد توصل أخونا الفاضل صاحب الدراسة إلى أن تحريم المعازف لم يكن مبنيا على ركن من الشرع ركين، وإنما كان ردة فعل مغالية على سوء التطبيق الذي ساد بعد القرن الأول الهجري، حين ارتبط الغناء بمجالس الخمر والمجون. وهو يبني رؤيته الفقهية هذه على تراث أحد مجددي أمر الدين، وحاملي راية الاجتهاد في عصر التبلد والتقليد، الإمام محمد بن علي الشوكاني. فقد اعتبر الشوكاني الغناء ذريعة إلى الحرام "إذا كان مشتملاً على ذكر القدود والخدود، والدلال والجمال، والفم والرشف، والتهتك والكشف، ومعاقرة العُقار، وخلع العِذار والوقار". واستثنى الشوكاني من الغناء ما كان "في ذكر الحرب وصفات الشجاعة والكرم، والتشبيب بذكر الديار، ووصف أصناف النِّعم". فالغناء والمعازف في هذا الفقه اليماني الأصيل وسائل لها حكم مقاصدها، فهي لا تُُمدح أو تُُذم لذاتها.
ويسير المؤلف الكريم على خطى الإمام الشوكاني الذي حذر طلاب الحق في رسالته (رفع الجناح عن نافي المباح) من "هيبة الجمهور"، ومن "جعْل الكثرة بمجردها من موجبات الرجحان ودلائل الإصابة". وما أثمنها من نصيحة في أيامنا هذه التي سادت فيها الأجوبة السهلة على الأسئلة الصعبة، وطغت مجاراة الجمهور وما ساد من قولٍ بديلا عن المساءلة العلمية والشك المنهجي، وأصبح التضييق والتحريج –لا البرهان والدليل- علامة العلم الواسع، وآية التقوى والالتزام. وحُقَّ لكاتب هذه الدراسة القيِّمة أن يَرثِي تراجُع الجِدِّ العلمي والشجاعة الفقهية، وسيادة "الخوف من عوام المتدينين"، "وترك المجال للوعاظ المتنطعين"، الذين يسعون إلى سد منافذ الشر من غير فقه، فيسدون معها أبواب الخير الواسعة..
وليس يلام فقهاء الماضي أن استجابوا لظروف عصرهم، أو اجتهدوا رأيهم بما يحفظ العفاف، ويحمي من الإسفاف. وإنما يلام فقيه اليوم إن أخذ اجتهادا محدودا بظروف الزمان والمكان مأخذ الأصل الشرعي الثابت، أو غض الطرف عن الضعف البنائي الذي يظهر أحيانا في الآراء الفقهية الموروثة، أو تجاهل تبدل المصالح، وإجمال الأدلة، وتجدد الوقائع..
وقد أبان المؤلف الكريم -ومن قبْله الإمام الشوكاني- عن أن التوسع في الاستقراء وفحص الأقوال السائدة بفقهٍ وثّابٍ غير هيّابٍ، يظهر ضعفا مزمنا في الأقوال المأخوذ بها اليوم حول الغناء والمعازف. وقد نسب الشوكاني باستقرائه الواسع إباحة الغناء بالمعازف لعدد من الصحابة، منهم –كما ورد بأسانيد صِحاح وحِسان- عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما الذي قال في أبيه النبي صلى الله عليه وسلم: "شبيه خلْقي وخلُقي"، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما وهو إمام من أئمة العلم والتقوى والجهاد، وحسان بن ثابت رضي الله عنه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحامي عرضه من سهام المشركين.
كما نسب الشوكاني إباحة الغناء بالمعازف إلى عدد من أعلام التابعين، منهم: سعيد بن المسيب، وخارجة بن زيد، وشريح القاضي، وسعيد بن جبير، وعامر الشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وطاووس، وغيرهم… بل نقل عن بعض أهل العلم إجماع أهل المدينة على إباحة العود وغيره من المعازف. وهو نقلٌ لم ينكر وجوده الحافظ ابن حجر رغم قوله بالتحريم. قال ابن حجر متحدثا عن المعازف: "وقد حكى قوم الإجماع على تحريمها وحكى بعضهم عكسه" (فتح الباري 2|471).
ويبقى لديَّ استدراك بسيط على ما ورد في هذه الدراسة من نقل الإمام الشوكاني عن ابن النحوي نسبة إباحة الغناء بالمعازف إلى شريح القاضي. فقد ورد في "كتاب المظالم" من صحيح البخاري: "وأُتِيَ شريحٌ في طنبور كُسِر فلم يقض فيه بشيء"، أي أنه لم يُلزِم الذي كسره بقيمته للمالك، بل أهدر قيمته، والطنبور آلة من آلات الغناء. وهذا يوحي بأن نسبة إباحة المعازف إلى شريح القاضي فيها إشكال، إذ ما كان شريح –وهو القاضي المعروف بالعدل والنباهة- لُيهدر مال صاحب المال لو لم يكن يرى تحريم الطنبور وما شاكله من المعازف. بيد أن هذا الاستدراك الجزئي في شأن شريح لا يخْرِم من قوة استدلال المؤلف الكريم ولا من فقه سلفه الإمام الشوكاني في شأن الغناء والمعازف.
ولكَمْ كنت أتعجب في صغري وأنا أقرأ بعض الكتب في تاريخ المدينة المنورة، مثل كتاب السمهودي "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى"، وأجد فيها غرام أهل المدينة المنورة في القرن الأول الهجري -وهم خيار أهل الإسلام- بالشعر العفيف والغناء النظيف، والعزف على العود وغيره من المعازف… ثم كنت إذا قرأتُ ما دونتْه كتب الفقه المتأخرة من الشدة والمحاذرة في أمر الغناء والمعازف أجد في الأمر تناقضا غير مفهوم. لكن الإمام الشوكاني يبين أن مذهب أهل المدينة هو القول بحِلِّ الغناء بالمعازف، فيقول: "ذهب أهل المدينة، ومن وافقهم من علماء الظاهر، وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع، ولو مع العود واليراع".
ليس من المناسب أن أخوض في دقائق الاستدلالات التي تقدم بها الأستاذ الحميدي، إذ لا تتسع مساحة التقديم لذلك، ومن الظلم للقارئ أن أحول بينه وبين هذه الدارسة القيمة، التي لا يُغْني عن الاطلاع عليها أي تقديم.. وإنما أشير إشارات خفيفة إلى أمور غائبة عن الخطاب الفقهي السائد حول هذا الموضوع، وقد جلاَّها الأستاذ الحميدي في دراسته هذه، وفصلها فأحسن التفصيل:
أولاها: أن الاستدلال بآية: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم" على تحريم الغناء استدلالٌ واهٍ، حتى وإن صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن "لهو الحديث" في الآية هو الغناء. لأن علة إدانة هؤلاء الصادين عن سبيل الله هي الإضلال، لا استعمال الغناء وسيلة لذلك.. وقد أحسن الشوكاني في بيان ذلك إذ قال: "إن لهو الحديث لمّا عُلِّل في الآية بعلة الإضلال عن سبيل الله لم ينتهض للاستدلال به على المطلوب". ونزيد على ذلك قرينة أخرى وهي أن الآية مكية، ولم يرد في مكة في الغالب تشريع يتعلق بالحلال والحرام تفصيلا، ولا يَتوقع متفقه بشرعة الإسلام وتدرجها الحكيم في عصر النبوة أن يرد تحريم آلات الغناء قبل تحريم الخمر والفواحش..
وثانيتها: أن الاستدلال بحديث المعازف الوارد في صحيح البخاري عن هشام بن عمار حول استحلال الناس في آخر الزمان "الحِرَ والحرير والخمر والمعازف" استدلال ضعيف أيضا، لما ورد من إشكالات حول الحديث ذاته روايةً ودراية: من حيث تعليق البخاري لإسناده، والشك في راويه الصحابي (أبو مالك أو أبو عامر)، واختلاف ألفاظه، وورود التصحيف في بعضها…الخ بل حتى ولو اتصل هذا الحديث وصح إسناده – وهو ما أكده ابن حجر ورجحه صاحب هذه الدراسة- فقد "تقرر أن النهي عن الأمور المتعددة أو ترتيب الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها" كما يقول الشوكاني. فليس من الصواب البتُّ بتحريم أمر عمت به البلوى بناء على دلالة الاقتران هنا، على ضعفها عند الأصوليين.
وثالثتها: أننا لو سلمنا جدلا أن الحديث صحيح الإسناد، صريح العبارة في تحريم المعازف، فسيبقى إشكال آخر لا يقل شأنا: وهو أن لفظ (المعازف) في اللغة العربية يشمل الدف، بل وكافة أنواع الغناء واللعب. قال ابن حجر: "وفي حواشي الدمياطي: المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به، ويطلق على الغناء عزْف وعلى كل لعب عزْف ووقْعٌ" (فتح الباري 10|60). وقد تواترت الأحاديث النبوية في الصحيحين وغيرهما بجواز الدف. فيكون حديث المعازف هنا –على افتراض أنه صحيح صريح- مخالف لما هو أصح منه وأصرح، فلزم الترجيح والأخذ بالأحاديث المتفق عليها في إباحة الدف تصريحا، وإباحة المعازف الأخرى استتباعا، لأن الدف من المعازف.
إن من أهم التحديات أمام الحياة الإسلامية اليوم تخلف حمَلة الدين عن دورة الحياة الدائبة، وتفريطهم في تأصيل البدائل الشرعية. وليست البدائل عن فتون الفنون المعاصرة أقل هذه البدائل شأنا. وهذا الذي جادل من أجله الأستاذ الحميدي بحصافة علمية وحكمة دعوية في هذا الكتاب، فبيّن أن التباس الغناء في الماضي أو الحاضر بمجون وفتون ليس مبررا لإطلاق التحريم، بل الأوْلى أن يكون دافعا إلى التوسع والترخص، تشجيعا للبدائل الخيِّرة، ومنعا من فراغ يتمكن فيه الشر، فقال: "إن الغناء المباح هو ما كان منضبطاً بالضوابط الشرعية، وكل مشروع حدث فيه تجاوز ُيمنع منه ما اعتُبر تجاوزاً، لا أصل المشروع". وقد أحسن القول في هذا، فالحرام لا يحِّرم الحلال، وإنما يعلقه تعليقا ظرفيا لعارض طارئ، ثم يرجع الحلال حلالا كما كان. وإفتاء الناس بالورع ليس من شيم أهل الورع.. وإنما كانت شيمة أهل الورع أن يأخذوا أنفسهم بالأورع، فإذا أفتوا الناسَ داروا في فتياهم مع الراجح الذي دل عليه الدليل تضييقا وتوسعة.
وقد ضرب الإمام الشوكاني مثلا بديعا في ذلك، فبين أنه ليس من محبي الغناء ولا مستمعيه، لكنه أراد "إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع" غيرةً على دين الله تعالى من تضييق المتورعين من غير علم، ودفعا عن أعراض خيارٍ من الأمة كانوا يسمعون الغناء ولا يرون في استماعه حرجا. قال الشوكاني رحمة الله عليه: "وقد علم الله أنّا لم نقعد في مجلس من مجالس السماع، ولا لابسنا أهله في بقعة من البقاع، ولا عرفنا نوعاً من أنواعه، ولا أدركنا وضعا من أوضاعه. ولكنّا تكلمنا بما تقتضيه الأدلة، وأزحنا عن صدر المتكلم بالجهالة كل علة".
ومهما يكن من أمر، فإن فقه المحاذرة والمجانبة فقه سلبي، قد يحفظ بعض فطرة الخير في المجتمع، لكنه يفوت خيرا أكبر. فليس هو بالفقه الذي يحتاجه الإسلام اليوم. وإنما يحتاج الإسلام اليوم إلى من يأخذ الكتاب بقوة، ويركب موجة الحياة العاتية، ويوجهها وجهة الخير والحق والجمال. ونحن نعيش اليوم ثقافة الجماهير التي لا يغني النقد السلبي في شأنها شيئا، وإنما يتم مواجهتها بالبديل الإيجابي.
وقد أجاد المؤلف الكريم في تقديم رؤية شرعية عملية تراعي المصالح في عصرنا الذي أصبح الغناء والمعازف فيه من الفتن العظيمة والتحديات الجسيمة. ولم يعد من خيار أمام العاملين لبناء الحياة الإسلامية، سوى تطويع الغناء والمعازف لسلطان الحق، واتخاذهما مطية لغرس معاني العفاف والقوة والجهاد، بديلا عن تركهما بأيدي المتبطلين والمفسدين يسرحون بهما ويمرحون.
وعودا على بدء نقول مع الفيلسوف الشاعر محمد إقبال: "إن جفاف المنطق لا يقوى على مقاومة نضرة الشعر". فما أوسع الشقة بين محاضرة مملة عن تاريخ الأندلس، وبين أوتارٍ عميقة الإيقاع، تأخذ بنياط القلوب، حاملةً آهات الشاعر محمد إقبال وهو يبكي أطلال قرطبة، ويشبِّه أعمدة مسجدها المهجور بجذوع النخيل في أرض الشام، ويربط بين قبة المسجد وقمة جبل الطور:
كنخيل الشام وأعمُدهـا شمختْ في المسجد أعمُدهُ
تتـألق زرقـة قبتــهِ وتُقيم اللـيل وتُـقـعِدهُ
وتنـهُّدها في وحدتـها كالطور كواه تـنـهُّـدهُ
وما أبعد الشقة بين قراءة "باب الجهاد" في كتاب من كتب الفقه بصياغة باردة، وبين الاستماع إلى أوتار شديدة الوقع، تأخذ بتلابيب الأنفس الراكدة فتهزها هزا، وهي تحمل عز العبودية لله، وغضبة الحق، وثورة الضمير على الضيم، في قول إقبال:
لي في الجهاد يدٌ فرعونُ يخشاها
بيضاءُ ما مُـدَّتْ إلا لمـولاهــا
لقد وضع الأستاذ الحميدي يده على موطن الداء، وأحسن تشخيص الدواء حين قال: إن "الغناء الحرام لا يحارب إلا بتشجيع الغناء الحلال. ومن زعم أنه يحارب الغناء الحرام بمنع الغناء الحلال كمن زعم أنه سيحارب الزنا بمنع الزواج"..
وتِلكمْ هي الحنيفية السمحة، التي تتأسس على الإيجابية والإقدام وحفز فطرة الخير القادم، لا على المحاذرة والإحجام والخوف من الشر الداهم. فما يتمكن باطل إلا على فراغ من حق. لذا كان إحقاق الحق مقدما على إبطال الباطل.
والله الهادي للحق لا شريك له..