رن هاتفي ذات مساء وأنا أتجهز لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في العاصمة نواكشوط، قدم المتصل نفسه بأنه منتج برنامج "مساء الخير" الذي تبثه قناة الموريتانية كل مساء، وأنهم يرغبون في استضافتي على مائدة البرنامج، فسألته مستفهما عن سبب ترشيحي للاستضافة، فقال لي إنه يتابع ما أنشره سواء عبر هذا الحساب أو من خلال موقع أخبار انيفرار، فاتفقنا على أن تتم برمجة المقابلة خلال عطلة الأسبوع.
كان من حسن حظي، أن الصحفي الذي سيحاورني هو الأستاذ الفقيه المعلوم بن المرابط، ورغم أننا لم نلتق من قبل إلا أن أرواحنا تآلفت بسرعة بعدما أجرينا حواراً سريعاً قبل بث البرنامج، وأتذكر أنه أخبرني أن الحديث في فقرة "حكاية إنسان" سيتركز على المسيرة العلمية والعملية للضيف، فقلت له إن الأعراف الإكيدية تمنعني من الحديث عن نفسي طيلة ساعة من الزمن، واقترحت عليه أن نجري تعديلاً بسيطاً بحيث نخصص دقائق معدودة للتعريف، ونناقش في بقية الوقت بعض المواضيع الثقافية والعلمية. فوافق الشريف الخلوق، وأجرينا مقابلة أثار فيها محاوري أسئلة هامة وهي مبثوثة على اليوتيوب.
توثقت عرى الصداقة بيني مع الباحث المعلوم، وبتنا على تواصل دائم عبر الهاتف، ثم عبرت له ذات مرة عن رغبتي في زيارة الشيخ الشريف ياب بن محمادي والتبرك منه فوعدني بتحقيق تلك الأمنية.
انتقلت مطلع 2016 للعمل في العاصمة، وتوطدت علاقتي بالشريف الأديب المعلوم، وبشقيقه العالم محمد معروف، وقد حدد الشريف الفقيه موعد الزيارة في شهر رجب وتاريخها بمساء الجمعة، أما المكان فهو زاوية الشيخ محمد المامي، وجدت الشريف الكيس في انتظاري، وأخذني مباشرة إلى مجلس الشيخ، كان رحمه الله متواضعاً جداً، يجلس على فراش بسيط، يحيط به تلامذته، رفعت رأسي قليلا لأسجل اسمي في قائمة العباد الذين من الله عليهم برؤية وجه الشريف الولي العالم ياب بن محمادي، فرأيت آثار قيام الليل بادية عليه، وبعد السلام والسؤال عن أحوال أكابر أهل إكيد، أخبرني الشيخ أنه ولد في انيفرار، ثم حدثني عن سياق قدومه على الشيخ محمد سالم بن ألما رضي الله عنه، وكان من بين الحضور شاب يصنع الشاي وربما تدخل ليسأل الشيخ توضيح بعض الجزئيات، أما صاحبكم فكان مطرقا يستمع إلى سند متصل يرويه ثبت ضابط عن سلسلة ذهبية، عن الشيخ محمد سالم عن الشيخ المختار بن الما عن الشيخ محمذ فال بن متالي ..
نثر الشيخ ياب العديد من النكت واللطائف والأشباه والنظائر، حول التصوف وخصوصيات ورد الشاذلية وجمع أشياخه بين الشريعة والحقيقة، ثم ختم كلامه قائلا: "الشاذلية يحلبو ال ما اينعتو" ولا يخفى ما في تلك العبارة الجميلة من الابتعاد عن الترويج للطريقة وزهد أشياخها في الظهور وكثرة الأتباع والأشياع.
أخبرني الشيخ ياب رحمه الله أن شيخه محمد سالم بن ألما أخبره أن زوايا تشمش عيال على أهل انيفرار في المخطوطات والكتب والضبط، فقد اهتم علماء الحي بالتأليف والتصنيف والتوثيق في وقت مبكر، كما تميزوا بالبراعة في فقه النوازل ولعل المثل الشهير يؤكد تلك الحقيقة، فسأله أحد الشباب عن المثل، فقال له "ذو الخلط افريقهم ما تسدر فيه النازلة".
استفاض الشيخ في الحديث حول خصوصيات أهل إكيد وما يتميزون به من الكياسة والفطنة، وروى كرامات لبعض صلحائهم، وأحال لبعض مصنفاتهم، كان الوقت يمضي بسرعة، ورغم حرصي على الاستزادة والاستفادة من حديث الشيخ، إلا أنني كنت أعلم أن لديه أوراداً وأحزاباً خاصة بمساء الجمعة، فطلبت منه أن يدعو الله لي، فابتسم ودعا الله لي دعاء طويلا تمنيت لو حفظته، وخرجت وأنا ألهج بحمد الله وشكره الذي يسر لي لقاء هذا الولي العالم الحافظ بقية السلف الصالح، وقلت لصديقي المعلوم أنني سأرجع قريبا إلى تلك الحضرة النيرة المباركة.
قرأت بالأمس نعي الشيخ ياب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فعلمت حجم تفريطي في لقاء العلماء والصلحاء، فقد قضت ظروف الغربة أن يكون ذلك اللقاء هو الأول والأخير مع الأسف، وهامني تنزل فيه البركة.
بمفقد الشيخ ياب بن محمادي تفقد موريتانيا عالماً ربانياً وشيخ محظرة معتدلة خرجت آلاف العلماء والحفاظ الذين سيحملون المشعل ويواصلون السير على ذلك الصراط المستقيم.
بمفقد الشيخ يابه بن محمادي يفقد الوطن شيخا مربياً وولياً صالحاً مستجاب الدعوة تنفعل الأشياء بهمته، جامعا بين الشريعة والحقيقة، محيياً للسنة مميتاً للبدعة.
بمفقد الشيخ ياب بن محمادي يفقد الوطن حافظا مجودا لكتاب الله، عالما باثا للعلم سواء عن طريق التدريس أو التأليف.
بمفقد الشيخ يابه بن محمادي تفقد زاوية الشيخ محمد المامي باحثا متخصصا في تراث الشيخ وتآليفه ومصنفاته.
انتقلت روح الشيخ ياب بن محمادي إلى بارئها بعد عمر حافل في بث الدين، والتبليغ عن أفضل الأنبياء والمرسلين، فقدم إلى ما قدم من الأعمال الصالحة فبدأ يقرأ ويترقى، حلت بضريحه غوادي الرحمة وسواري المغفرة.
أنتهز هذه السانحة لأتقدم باسم أهل انيفرار عموما وأسرتي أهل اليدالي بن أبن وأهل امد بن الحمد على وجه الخصوص، بأحر التعازي إلى مجموعة السماليل دوحة الشرف والعلم المجد، وإلى أهل باركلل عنوان الصلاح والسخاء والعلم، وإلى تلاميذ الشيخ ومريديه، كما أخص بالتعزية أسرة الشيخ ونجله العالم الباحث الدكتور أحمد كوري والباحثين العالمين المعلوم ومحمد معروف وأسأل الله تعالى أن يرزقهم أجر الصبر وحلاوة التسليم وإنا لله وإنا إليه راجعون.