والطرف الثاني: هم الذين يأخذون التصوف بكل ما فيه، بعجره وبجره، كما يقولون. على ما يحمل أحيانًا من شركيات في العقيدة «القبوريات وأمثالها»، وابتداعات في العبادة، في الصلوات والأذان والأذكار وغيرها، وسلبيات في التربية، مثل قولهم: من قال لشيخه: لَم؟ لا يفلح، من اعترض انطرد، ومن باح راح، والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل!!
وأخطر من ذلك التصوف الفلسفي، الذي يقول بأفكار غريبة عن عقائد الإسلام، مثل: الحلول والاتحاد «ما في الجبة غير الله»، أو وحدة الوجود، أنه لا ثنائية في الوجود، فلا يوجد خالق ومخلوق، ولا رب ومربوب، ولا آمر ومأمور، وقد نادى بذلك متصوفون معروفون مثل: الحلاج والسهروردي المقتول وابن سبعين وابن عربي، الذي خيّر الناس بكتاباته التي يعارض بعضها بعضًا.
وقد أصبحت هناك ثقافة صوفية مختلفة، يعبرون فيها عن وجهتهم، ولهم فيها مصطلحاتهم الخاصة، وعباراتهم المؤثرة، التي تحمل من حرارة التعبير، وبراعة التصوير، وقوة التأثير، ما لا يوجد في عبارات غيرهم، التي تغلب عليها الصنعة، وتتسم كثيرًا بالجمود والبرود والهمود.
ومن الأفكار الأساسية التي غلبت عليهم، وراجت عندهم:
1 - اعتبار القلب والوجدان والذوق مصدرًا من مصادر الحكم الشرعي، فيكتفي أحدهم إذا فعل شيئًا أو تركه، أو حثّ عليه، أو نفر منه، أن يقول: قلبي أمرني أو نهاني، وهذا ما جعل بعضهم يحملون على العلم الشرعي وعلى أهله، ويعتبرون هذا العلم «حجابًا» عن الوصول إلى الله عز وجل.
وكانوا يعيبون على علماء الحديث معاناتهم في طلبه بأسانيده: حدثنا فلان عن فلان عن فلان... حتى إن أحدهم قيل له: هل لك أن ترحل إلى صنعاء تطلب العلم عن عبد الرزاق؟ فقال لهم: ما يصنع بالأخذ عن عبد الرزاق مَن يأخذ علمه عن الأخلاق؟!!
وعندما قيل لبعضهم: مَن حدثك هذا؟ قال: حدَّثني قلبي عن ربي!!
ليس كل الصوفية يقولون هذا، ولكن هذا شأن الغلاة منهم، وهم معظِّمون عادة عند سائر الصوفية، وإن لم يقولوا بقولهم.
2 - تفرقتهم بين الشريعة والحقيقة، وأن هناك أناسًا لا يعرفون إلا «ظاهر الشريعة» وهذا مبلغ علمهم، وهناك آخرون جعلوا همهم في طلب «باطن الحقيقة» فغاصوا في الأعماق، ووصلوا إلى المقصود.
وعندهم: أن الشيء قد يكون مذمومًا أو منكرًا في الشريعة، ولكنه محمود أو معروف في الحقيقة، ويستدلون على ذلك بقصّة سيدنا موسى مع الخضر، وأن ما كان يعتبره موسى منكرًا، كخرقه السفينة، وقتل الغلام، كان من المعروف المشروع عند الخضر، كما بين له ذلك.
ومن أقوالهم المأثورة هنا: مّن نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم، ومَن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم!؛ لأن الذي ينظر إليهم بعين الحقيقة يراهم -وإن لم ينفذوا أمر الله- قد نفذوا إرادته في كونه، فهم أطاعوا الإرادة، وإن عصوا الأمر؛ ومعنى هذا: أنه يجب أن نعذر فرعون وهامان وقارون، وكل الكفرة المفسدين في الأرض، والمستكبرين على خلق الله، بل يجب أن نعذر شر خلق الله إبليس، فهو ينفذ إرادة الله فيه!!
وعلى هذا، يقولون: إن الناس لم يعبدوا أحدًا غير الله؛ لأنهم مقهورون على تنفيد إرادته، ولذا قال ابن عربي: أبى الله أن يعبد أحد سواه: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، ويعني بالقضاء هنا: القضاء الكوني لا القضاء الأمري التشريعي، وهو ما تعنيه الآية الكريمة، ومن شعره:
عقد الخلائق في الإله عقائدا وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه!
ولذا ورد عن ابن عربي ما يذيب الفوارق بين الأديان، فليس فيها صحيح وفاسد، ولا منسوخ وناسخ، ولا حق وباطل، ومن أشهر ذلك قوله مما نسب إليه:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورة فمرعى لغزلان، ودير لرهبان
وبيت لأوثان، وكعبة طائف وألواح توراة، ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّي توجَّهتْ ركائبُه، فالحبُّ ديني وإيماني!














