أصحاب الغار والإسقاط على الحياة المعاصرة الحلقة (6)

كتب الدكتور المرسي محمود شولح لموقع الفكر

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

فى المحن منح ،وفى الدخول فى ورطات الأزمات حمل المخارج منها ، وعوامل التصدى لها

وكان عمل الأول من أصحاب الغار مثالاً في بر الوالدين ، وأظهر عمله المثالي ما دخل فيه من محنة ، وحمل معه  فيها المخرج العملي منها

وقد تشكلت ملامح المحنة  كما كان فى خطابه من خلال ما يأتى :

_التأخير عن الوالدين :

تأخر الإبن عن والديه ، ولم يقدم لهما الطعام في وقته ، وكان تأخره خارجاً عنه، وليس بيده ، ففي الحديث : " فأبطأت عنهما ليلة " ، وفى رواية سالم : " فنأى بي طلب شيء يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما ".. و " الشيء " لم يفسر ما هو في هذه الرواية ، وقد بين في رواية مسلم من طريق أبى ضمرة ولفظه : "وإني نأى بي ذات يوم الشجر"، والمراد أنه استطرد مع غنمه في الرعي إلى أن بعد عن مكانه زيادة على العادة فلذلك أبطأ ، وفى حديث على : "فإن الكلأ تناءى على "، أي تباعد ، والكلأ المرعى ([1]).

فقد تأخر الرجل بسبب جهاده في المعاش , وتقديره لمصدر رزقه , فإنه لا يستسلم للمعوقات , وإنما يصبر ويتحمل .

فكان تأخره بسبب الاستطراد مع الغنم في الرعي زيادة على العادة ، فهو يقدر الرعي في كل ليلة ، ويجمع بين الرعي وبر الوالدين ، ولكن حدث في هذه الليلة ما ليس في حسابه ، ولم يخطر بباله وهو الابتعاد عن المكان مما أدى إلى تأخيره ، وتباعد المرعى بقدر الله تعالى ، فليس الأمر بيد الرجل ،إنما أخذت الأمور تتابع ليكون التأخير ، ولتتشكل ملامح البر ، فالأمور ليست عفوية ، ولا ادعائية ، وإنما كلها بقدر الله تعالى .

Å الوالدان شيخان كبيران :

الوالدان عند الكبر لهما ظروفهما الخاصة التي تقتضى من الولد التعامل معهما بما يتفق مع طبيعة المرحلة التي هم فيها

 قال تعالى : ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾ ([2]).

فهما شيخان كبيران في سن الضعف الذي قد يغرى بالتقصير في حقهما بعدما وهن العظم منهما ، لكن حقهما في البر كما هو ، بل كان مضاعفاً جبراً لخاطرهما .

فالأبوان لهما ظروفهما الخاصة ، فليسا في حالة تمكنهما القيام على أنفسهما ، والعناية بشأنهما ، وكبرهما وضعفهما يقتضيان الملازمة والمعاهدة .

قوله ( شيخان كبيران ) زاد في رواية أبى ضمرة عن موسى : "ولى صبية صغار فكنت أرعى عليهم"، وفى حديث على :" أبوان ضعيفان فقيران ليس لهما خادم ولا راع ولا ولى غيري ، فكنت أرعى لهما بالنهار وآوى إليهما بالليل".

وأسباب الحاجة فيما يأتي :

- أنهما شيخان كبيران ضعيفان فقيران .

- ليس لهما خادم ولا راع ولا ولى غير صاحب الغار.

_ وظيفته صاحب الغارالأساس أن يبر والديه وأن ينفق عليهما عن طريق الرعي

فقد اجتمعت الأسباب لإظهار مكانة العمل ، فالوالدان لا يملكان شيئاً من حطام الدنيا ، ويظهر عليهما أثر الزمن من الكبر والضعف ، وابنهما وحيد وعنده صبية صغار، وليس من الغنى ما يستطيع أن يوفر لوالديه خادماً ، وإنما يخدمهما ، ويقوم برعايتهما بنفسه .

Å حاجة الولد للأ بوين:

ظاهر الأمر يقتضى حاجة الوالدين إلى الولد ، والنظرة الشرعية تقتضى - رغم كبر الوالدين وضعفهما - الفهم أن الولد مع قوته في حاجة إلى الوالد مع كبره وضعفه . فالولد محتاج إلى والديه ، ووالداه مستغنيان عنه ، فالولد يحتاج إلى برهما ، وإلى العطف عليهما ، لنيل رضاهما ، ولو كانت عنده القدرة لايقبل أن يتولى خدمتهما غيره ، لأنه يرى نفسه في أمس الحاجة إليهما ، وإلى رضاهما ، والظفر بدعائهما ، فالولد من النظرة الإيمانية هو المحتاج لوالديه ، ولا يستغنى عنهما بأي حال .

وكان الوالدان قريبين من الإبن ، وموجودين معه في المكان نفسه ، وتحت سمعه وبصره ، وليسا بعيدين عنه.

قال تعالى : ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا ﴾ ([3]).

والوالدان مع صاحب الغار في البيت ، وتحت إشرافه وليسا في دار وحدهما ، أو عند غيره .

ومن صور الجفاء المعاصرة فى التعامل مع الوالدين ما يأتى:

_تركهما أو أحدهما دون عناية وتعهد ومتابعة

_الإبقاء عليهما دون أخذ بأساليب ووسائل تجديد حياتهما

_عدم المرور عليهما والجلوس معهما عند العودة إلى البيت وقضاء أكثر الوقت مع الزوجة والأولاد

 _تحميل أحد الأبناء العبء الأكبر فى رعاية الوالدين وتنحية بقية الأولاد أنفسهم من المشاركة فى البر

_ حاجة الوالدين إلى الأنس والحوار وذكر الأخبار وعدم تحقيق ذلك لهما

_الذهاب بالوالدين إلى دور المسنيين عند الكبر من الأساليب التى تحتاج إلى نظر ووقوف مع النفس.

 

 

([1]) فتح الباري 6 / 587 .

([2]) سورة الإسراء من الآية : 23 .

([3]) سورة الإسراء من الآية : 23 .