فخامة الرئيس باه ممدو امباري،
رحمه الله، "إنسان اعل بابُ"..
تعرفت في حياتي على عدد كبير من الأصدقاء في مختلف مراحل التعليم و الوظائف و المناسبات الرسمية و غير الرسمية، و أحسب أخي و زميلي الرئيس باه ممدو امباري رحمه الله من أحسنهم خلقا و أكثرهم براءة و طيب نفس و لباقة و خفة ظل. كنا معا في إعدادية روصو، و تحولنا معا إلى ثانوية نواكشوط، قبل أن يتابع رحلته الدراسية في موسكو. ثم خضنا معا معارك الطلاب والشباب في سبعينيات القرن الماضي، والتقينا بعد ذلك في الحزب الجمهوري قبل أن ندخل الحكومة معا.
و ذكرتني هذه الصورة بجانب من جوانب شخصيته، جانب الوطنية و البراءة و سلامة الصدر. كان، رحمه الله، مثالا في الوضوح و الشفافية والصراحة و عدم التلوي.. و كما يُقال "إنسان اعل بابُ"..
الصورة ملتقطة يوم 15-2-2005. كان الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطائع حفظه الله ورعاه يؤدي زيارة رسمية لجمهورية السينغال، هي الأولى من نوعها منذ وصول الرئيس عبد الله واد لدفة الحكم في دكار. وكان الرئيس مرفوقا بوفد هام يضم برلمانيين و وزراء و رجال أعمال. أذكر من بين الوزراء الحاضرين وزير الشؤون الاقتصادية سيدي ولد ديدي، وزير التنمية الريفية أحمدو ولد أحمدو، و وزير الصيد والاقتصاد البحري باه ممدو امباري رحمه الله، و وزير الشؤون الخارجية والتعاون.
و خصص للرئيس استقبال شعبي و رسمي رائع. و أقام الرئيس "واد" حفل غداء فاخر على شرف ضيفه الكبير و الوفد المرافق له. أثناء الحفل همست في أذن معالي الوزير امباري: "انظر إلى المائدة، أنها كلها من عندنا تقريبًا: اللحم موريتاني و السمك موريتاني والماء المعدني موريتاني ("الشافي") و كأس الشاي موريتاني..
و بعد الغداء و استراحة خفيفة عقد الوفدان اجتماعا على مستوى الوزراء في قاعة الاجتماعات بوزارة الخارجية. و وجدنا صعوبات كبيرة في التفاوض للوصول إلى اتفاق. تعبنا و سئمنا. طال الاجتماع وتبيّن أن السينغال مصممة على انتزاع تنازلات مجحفة تتعلق بعدد رخص الصيد و البواخر التقليدية المأذونة وتسهيلات أخرى مقابل فتح مراعيها للانتجاع و الرعي أمام المنمين الموريتانيين. وبعد ثلاث ساعات من النقاش و اللف و الدوران والمجاملات الدبلوماسية،
أخذ المرحوم امباري الكلام و قال ببساطة و براءة وصدق: "هل أنتم جادون حقا؟ أنسيتم الغداء اليوم؟ أنتم ما عندكم إلاّ لحومنا و سمكنا و مياهنا المعدنية وأتاينا. ماذا عنكم لو منعناكم السمك والحيوان؟" نزل كلامه كالصاعقة على الجميع .. فتحت الميكروفون فورًا وبادرت بالمداعبات وسألت باللغة الولفية: "دگْ ولّلا دُو دگْ؟؟" بمعنى "حگْ وللّ ماهِ حگْ"؟ . ضحك الوزير الشيخ التجاني گاديو، وصفق و قال: "والله دگْ لَ" يعني "والله ألّ حگْ"! وأنقذ الموقف بخبرته وحنكته وذكائه. صفق الجميع و صار الجو أكثر لطافة. و خرجنا باتفاق معقول.
اللهم اغفر لصديقي و زميلي باه ممدو امباري و ارحمه واعف عنه.
فائدة: تارة يكون الصفع بالحقيقة على الوجه أجدى و أنفع من تلوي و تعتعة الدبلوماسيين.
* الصورة هدية من ذاكرة الوطن: مكتبة الأخ الفاضل احمد محمود الملقب جمال ولد محمد. وأغتنم هذه الفرصة لأقدم له أسمى آيات الشكر و الامتنان على كل الهدايا التاريخية الثمينة التي تصلني من عنده.