لقيتُ ذاتَ ليلة في مسجد بُدَّاه بلكصر رجلا محظريا أعرف علمه وفضله..كان أثر السَّفر لائحا على وجهِه وثوبه, وكان يَحمل في يَده جِرابا قَرَع القِدَمُ عليه طَبلَه..
تبادلنا التَّحيَّة والسُّؤال عن الحال, وكان يتحدَّث ببشاشةٍ مُلاطفة, وأَريحية معجونة بالتَّواضع, وتتَخلَّل حديثَه أمثالٌ سائرة وحِكم وأشعار..
سألتُه عن كلمة ذَكرها في بيت, فجلب شواهد وذكر معانيَ تستميل الأسماع, ولكأنَّ السَّامع يستزيدُه ولسان حاله يَقول:
وحدَّثْتَني يا سعدُ عنها فزِدتني.. جنوناً, فزِدني من حديثك يا سَعدُ
خرجنا وودَّعناه قريبا من دُكَّان صغير كان سيَبيتُ مع صاحبِه فيه, ثمَّ يَذهب بُكرة إلى طبيب له معه موعد, قبل أن يرجع لقريتِه عشِيًّا..حيث ينتظره الطلاب.
كان معي أحد الوافدين لطلب العلم من خارج البلاد, فقال إن مثل ذلك الرَّجل عندَهم مَحفود, يبيتُ في الفنادق, ويتعالج في أرقى المستشفيات, ولكنَّ نَيلَ غيرِ الخواصِّ للحظة من وقتِه أعزُّ من الكبريت الأحمر.
وحار في ذلك المعنى طالبٌ آخر وافد, حين قارن ما رآه هنا بما عَهِده في بلده, فقال لي إنَّه لم يَكن يَتصوَّر أنَّه بعد صلاة الصُّبح سَيقصِد من مسجد بُدَّاه "بُتيك السِّدرَايَه" ليدرس "الكفاف" على العلَّامة القاضي اطفيل ولد الواثق أمام الدُّكَّان الَّذي يُدرِّس صاحبُه القرءانَ للصِّغار, حيث يتناول الشيخان شايَهما صبوحا, ويتعاطيان أحاديثهما الممتعة, فإذا طلع حاجبُ الشَّمس قصد الشَّيخَ اللغويَّ ابُّوه ولد المحبوبي في بيته ليقرأ عليه طرفا من "الألفية"..وأحيانا يَذهب ظهرا إلى العلَّامة محمد محفوظ ولد المختار فال في مسجد السَّمعة ليقرأ عليه طرفا من "المراقي" ..فهو يدرُس الفقه أمام دكَّان بجنب سِدرة في الشَّارع, ويدرُس النَّحو في بيت خَرِب إلَّا من أركان العلم, ويدرس الأصول في مسجد بجوار السُّوق يزدَحم فيه العوامُّ..
ولكلِّ درس شَيخ مُقتدر وقُور, سِيماه التَّواضع, وعنوانه القُرب..بينما رأى جامعات ومعاهد كأنَّما تقلَّدت نُجوم السَّماء تطاولا, جعلها أكثرُ المدرِّسين قِبلتهم, لا يَلوون على غيرها, مع أنَّ أكثرهم كالمُعيديِّ أن تَسمع به خيرٌ من أن تراه.
يُخشَى اليومَ غياب هذه الميزة المحظرية الطَّيِّبة, وفقد تلك "البساطة" البريئةالمؤثِّرة, فقد كثُرت الأغراض, وازداد الطُّموح, وخاصَّة في "انواكشوط", حيث يَعتذر كثير من الشُّيوخ –إن وُجدوا- للطُّلَّاب بكثرة المواعد وتعدُّد المشاغل, بل لا يُلقَون إلَّا بمشقَّة, مبتَعدين عن صلة رَحم العلم, وتقديم طلَّابه, وما أحسن ما نظمه العلَّامة ممُّ ولد عبد الحميد في حياة شيخه العلَّامة يحظيه ولد عبد الودود, حيث قال عنه:
كان لِطالبِ العلوم يَرحَمُ ..
لا سيَّما إذا اعتَراهُ سَقَمُ
يُؤنِسُه بِعَرْك أُذْنٍ وشعَرْ..
وقد يضُمُّه إليه فيُسَرّْ
ولا يَصون كتبَه عن طالبِ..
وليس دون بابِه من حاجبِ..