انديونت العيد- يعقوب بن اليدالي

خلال صيف 2016، تواصلت معي صديقة محترمة تعمل في قناة الموريتانية، وطلبت مني أن أقبل استضافة القناة للحديث عن حضور العيد في الشعر العربي، فحاولت التخلص منها معتذرا بأن بضاعتي الأدبية مزجاة، وأن الوقت ضيق، وأنني لست وجها تلفزيونيا، ولكنها رفضت تلك المعاذير وألحت علي في الحضور مساء الغد، فحضرت  إلى الاستوديو، وكان البرنامج يبث مباشرة على الهواء، وبدأت الحديث بمدخل عام تعرضت فيه لاحتفال الأمم الغابرة بأعيادها وطقوسها، ثم التحق بنا أديب شائع كثير الحضور في القنوات والبرامج الأدبية، ولما طلب منه الصحفي تقديم نماذج من حضور العيد في دواوين شعراء الحسانية، أجابه بكل ثقة، بأن العيد غائب عن مدونة الشعر الموريتانية بفصيحها وشعبيها، وأنه يتحدى أي باحث يمكنه أن يأتي بنصوص منه، وأن هذا السؤال يتكرر طرحه في كل عيد ولا يوجد من يجيب عليه.

ثم وجه إليّ الصحفي نفس السؤال فرويت له من حفظي عدة نصوص شعرية فصيحة خاصة بالسياق الموريتاني، ثم أشفعتها ببعض نصوص شعر الحسانية، وأثناء التوقف لأداء صلاة المغرب، بادرني الأديب قائلا: أستاذ انت بسملحيل ريت ذو النصوص الشعرية الزينة؟ فأجبته بأن أدب العيد خالك يغير لا بد حد إلودلو

ثم قررت بعد ذلك اللقاء أن أنشر سلسلة مقالات حول حضور الشعر في الأدب العربي عموما والشنقيطي على وجه الخصوص، وسأتحفكم اليوم بعيدية طريفة، تتعلق بتحليل حضور العيد في أدب الشاعرين الفحلين ابن الرومي والشيخ الأديب أحمد سالم بن الداهي، وأرجو من الباحثين المحاضرين العزو للمراجع التي يعتمدون عليها. 

حضور العيد في أدب الشاعر ابن الرومي و الشيخ الأديب أحمدُّسالم بن الداهي.

شهد غرض التهنئة بالعيد، حضوراً قوياً في الشعر العباسي، على يد ابن الرومي (ت 283هـ) سواء من حيث الكم أو الكيف، ولعل تداخل جينات الشاعر، جعله يحتفل بالأعياد جميعاً، فمن المعروف أن أباه كان رومياً، وأمه فارسية مسلمة متدينة، وولاؤه لبني العباس، كما أن ممدوحه عبيد الله بن عبدالله بن طاهر ينحدر من خراسان.
وما يميز شعر ابن الرومي عن غيره، أنه كان دائماً يتنبه إلى تصادف أو تقارب حلول الأعياد فيشير إلى ذلك بطريقة لطيفة، يوظفها في الإشادة بممدوحيه، وإليكم نماذج منها، قيلت كلها للأمير عبيد الله:

عيدٌ يطابق أولَ الأسبوع
وقعتْ به الأقدارُ خيرَ وقوعِ
للفألِ بالإقبال فيه شاهدٌ
عدلُ الشهادة ليس بالمدفوعِ
وقوله: 
عيدان مجموعان في عيدِ
دليلُ تأكيد وتأييدِ
ما جُمعَ الفطرُ إلى جُمعةٍ
إلا لمُلك ولتخليدِ
وقوله:
جَرَى الأضحى رَسِيل المِهرجانِ
كأنهما مَعاً فرسا رِهانِ
ولم يتتابعِ العيدانِ إلاَّ
تنافُسَ رؤيةِ الملكِ الهِجان

كما أبدع أيضا في استخدام العيد في التشبيه وذلك حين يقول:

سأنظرُ نحو دارك حين أخشى
على كبدي التُّفتتَ من بعيدِ
كما نظر الأسـير إلى طليق
يؤمُّ بلادَهُ لحـضور عيدِ

وإذا كان الشاعر ابن الرومي هو فارس غرض التهنئة بالعيد في العصر العباسي، فإن الأديب أحمدُّسالم بن الدَّاهِي هو حامل لواء غرض "فيش الغيد يوم العيد" في أرض البيظان، فقد شاعت امريم بنت اباه وعيشة، ولحبوس ولِخديدْ، بعدما ذاعت وأذيعت النصوص "المرفودة" التي شكل من خلالها الأديب الأريب أحمدُّ سالم بن الداهي رحمه الله (ت 2016 م) ، نواة صلبة لتأسيس غرض جديد من التشبيب، يتميز عن الغزل والنسيب، سلك فيه لاحباً سافه المتأخرون فقفوه، بعد ما رامه القدماء  فأشووه، وقد أشار إلى ذلك في نص كتبه على لسان قرية"لعويج" فقال:  

يَحْـمَدُّ سَالِمْ لاَ اتْلَيْتْ
اتْخَصَّرْ لِغْنَ لاَ ابْغَيْتْ
إِنْتَ مَهَللَّ مَا انْسَــيْتْ
زَينْ أَعْـيَادِ وَ فْـطَارِ
وِغْناَكْ الزَّيْنْ اللِّي اسْمَيْت
 فِيهْ ابْيَاظِ وِاخْظَارِ
إِلَ شِـعْتْ إِلَ فُـوكْ جَيْتْ
أَنْظَارَاتِ وَ أَنْظَارِ

وسنحاول تسليط الضوء على طريقة الأديب أحمدُّ سالم في معالجة أدب "فيش الغيد"، من خلال قراءة سريعة لنصوص "امريم" الثلاثة، ومحاولة استنطاقها وترتيبها زمانياً.

أولاً: نص الفطر

فَطْرِكْ يَمْرَيَّمْ كِيفْ أَفْطَارْ
أَصْحَابْ الجَلاَلَ لِكْبَارْ
إخْلَـطْتِ لِحْمَارْ ابْلِخْظَاْر
وِالمَعْنَ هُوَّ وِالنَّصْرَ
جَيْتِ لِلاَّمَ لَصْفِرَارْ
وِالْحَكْتِ كِدَّامِكْ حَصْرَ
وِاكْصَرْتِ لَيْنْ اكْدَاتْ النَّارْ
فِالْحَصَر مَا خِلْكِتْ حَصْرَ
ألاَ خَلَّيْتِ رَدَّادْ أَخْبَارْ 
فِالحَصْرَ مَا طَاكْ الكَصْرَ
وِالْفَطْرْ الزَّيْنْ ابْكَيتِ بِيهْ
افْنَصْرَ تَعْرَفْهَ نَصْرَ
وَأَمْـتَنْ ثَوْرِتْ جَمَالِكْ فِيهْ
مِنْ ثَـوْرِةْ جَمَالْ افْمِصْرَ

عدد الأديب في نص "الفطر" المعايير الموضوعية، التي مكنت "مريم" من الفوز على منافستها ، فأشار إلى أناقتها من خلال تناغم ألوان لباسها وانسجامها، كما نبه إلى أن قدومها إلى الحفل جاء في الوقت المناسب، وهو ما لفت انتباه الحضور إلى حضورها المتميز، وكان ذلك على حساب  اللواتي حضرن وقت الحر. كما نبه إلى اتفاق "ردادت لخبار" على تميز مريم في تلك الأمسية الفيشية، وقد وفق في توظيف مراعاة النظير "التلميح" في خاتمة النص، الذي مهد له ببراعة استهلال رائعة.
أما من حيث المبنى فقد اختار الأديب رويَّ الراء "الحار" التزم معه حرفا صفيرياً هو الصاد فزاد من عذوبة موسيقى النص، كما فضل ضبط الروي بالفتح لخفته، وقد يكون تفاؤلا لإلفه بالنصر والفتح. 

ثانياً: نص الأضحى

عِـيدِكْ يَمْرَيَّمْ مَاهُ فَاشْ
وِتْكِدِّ زَادْ أُعَنْدِكْ بَاشْ
حَصْرولِكْ فِرْكَانُ وِحْرَاش
فِيهْ الْفَيْشْ أُجَيْتِيهْ انْتِ
وِالْمِنْـهُمْ كَانْ ابْعَقْلُ طَاش
وِاتْهَيْتِ مِنْ فَمْ أُتْسَنْتِ
وِاكْـتِلْ لِعْلَيَاتْ التِّخْوَاشْ
مِنِّكْ وِاسْكِتِّ وِاسْكِنْتِ
تَمَّيْتِ بَاشْ اجْتَمْعُ بَاشْ
ازْيِنْتِ فِي العَيْنْ أُبِنْتِ
يَا امْرَيَّمْ مَا شَطْنِكْ لِكْبَاحْ
انْتِ كَاعْ امْرَيَّمْ كِنْتِ
وِامْنَيْنْ اخْلكْ لِكْبَاحْ أُبَاحْ
مَا عَادْ امْرَيَّمْ كُونْ انْتِ

يبدو لنا أن نص الأضحى متأخرٌ زمنياً عن طلعة الفطر، وقد ظهر ذلك جلياً في قوة المنافسة واتساع دائرتها، والارتباك الذي ظهر على المتنافسات، وقد أكد الأديب أن إلفه استحقت اللقب بسبب اتصافها بمعايير خلقية نادرة. كما جعل من اسم امريم مرادفاً لراص انعامة، فكأنه يشير بذلك إلى أن نسوة المدينة تأثرن بها وتقمصن شخصيتها من أجل الفوز باللقب. 
أما من حيث الشكل فقد فضل التزام حرف النون والتاء، أو بعبارة أخرى ضمير المخاطب المؤنث "انتِ"، ولا يخفى ما في ذلك من التحديد و"اطريح اصبع"، كما أن اختيار الكسرة لضبط الروي، يتناغم مع تحطيم مريم للأرقام القياسية من خلال فوزين متاليين.

ثالثاً: نص المولود:

ذَ عِيدْ المَوْلودْ الَّ عَادْ
امْنْ أعْيَادْ امْرَيَّم وَأعْيَادْ
امْرَيَّمْ مَا كَطـّ لَغْيَاْد
حَصْرُ مَا رَاحُ وِانْكَصْرُ
وادَّلَّاوْ عْـبَانِـيهمُ زَادْ
وَللَّ بِكْـمُ وللَّ بِصْرُ
وامْرَيَّـمْ يَوْمْ العِيدْ إلْهَ
مِنْ سَعْـتِنْ يُصَّلَّ عَصْرُ
مَا يَبْگَ شِ مَا طَاهْ الْهَ
مُولانَ وِاعْـطَاهَ نـَصرُ

أصدر الأديب حكمه على الطريقة "الإكيدية"، عندما قال إن  المولود ألَّ عاد مثل أعياد امريم، وهي براعة استهلال تشي بفوز "امريم في الفيش "، كما اختار عبارة "ادلاو اعبانيهم" التى  تختزل في كلمتين حجم معاناة النسوة النفسية، ومستوى حسرتهن وخيبة أملهن، ومن المعروف أن تدلي البُخص يسببه البكاء والحزن المتواصل.
ضبط الأديب إيقاع النص من خلال التزامه لحرفي الصاد والراء، كما شكل الروي بالضم، وهو ما يشير ربما، إلى ضم إلفه للقب عيد المولود إلى ألقابها السابقة.

عيدكم مبارك سعيد وكل عام وأنتم بخير