التغريبة الموريتانية..أحمد محمد فال آبه

في مطار نواكشوط، والساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا، أثارت انتباهي حركة غير عادية، وزحام للمسافرين في المطار "الميت" والواقع على بعد 40 كيلومترا تقريبا من العاصمة..
  عند البوابة الأمامية لقاعة المسافرين، طلب مني الدركي جواز السفر، فسلمته إياه.. ابتسم وهو يتصفح الجواز، ثم سألني: إلى نيكاراغوا؟ فقلت : لا،  فقال، بتهكم: احذر إذن أن تتجاوز بك الطائرة وجهتك.. 
   دلفت إلى القاعة، فهالني طول الطابور أمام مكتب التسجيل، على غير العادة، فمطار نواكشوط من أقل مطارات العالم نشاطا، والرحلات الجوية التي تصل إليه أسبوعيا محدودة جدا..
   وقفت في آخر الطابور أنتظر دوري، وبعد 10 دقائق تقريبا، خاطبتني الموظفة التي تنظم المسافرين قائلة : إلى الحائط ؟ .. لم أفهم سؤالها لوهلة، لكنني استجمعت شتات ذهني الذي كان موزعا بين عدة أمور، وتذكرت أنها تعني ب "الحائط" جدار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي أقامه على حدود بلاده مع المكسيك للحد من الهجرة غير الشرعية، فقلت لها : لا، فقالت: إذن، اذهب إلى الجهة الأخرى.
  تصفحت وجوه الواقفين في الطابور.. شباب في مقتبل العمر، وفتية لم يبلغوا الحلم بعد، من مختلف شرائح المجتمع، قد تخففوا من كل متاع، إلا حقائب ظهر صغيرة، وعلب ماء، وآمال عريضة في الوصول إلى "حائط" يخيل لهم أن "باطنه فيه الرحمة".. لا يبدو عليهم الحزن لمغادرة الأهل والوطن، ولا هم خائفون مما قد تخبئه لهم الأيام في رحلة يكتنفها الغموض والمخاطر،، أسأل الله أن يحفظ كل موريتاني ذهب فيها..
   بعد إكمال إجراءات التسجيل، والصعود إلى القاعة العليا في انتظار فتح باب الطائرة، والتي تأخرت عن موعدها بساعة تقريبا، أعدت تصفح وجوه "المهاجرين" وقراءتها من جديد، لعلي أرى "حنينا" إلى الوطن، أو أسمع اي عبارة في الثناء عليه ، لكن الحديث كله كان عن "الحائط" ، وخط الرحلة، دون ذكر لموريتانيا، بخير أو بشر !!
   جلست إلى ثلاثة شبان وفتى، وسألتهم - بشغف الصحفي الباحث عن المعلومة - عن تفاصيل رحلة "الحائط"، من الألف إلى الياء، فتطوع أحدهم بإعطائي ما يملك من تفاصيل.. قال: هناك مكاتب هجرة تتولى حجز تذاكر السفر من نواكشوط إلى بوغوتا أو ماناغوا، لكن عليك الحذر من النصابين، فليست كل المكاتب يوثق بها.. بعد الوصول إلى بوغوتا مثلا ، يتواصل "المهاجر" مع بيدرو (المهرب) عن طريق واتساب ويرسل له صورته، فيرد بيدرو بصورة الشخص الذي سيستقبل "المهاجر" ويوصله إلى سارا، وهي مهربة أخرى، ثم يعبر إلى هندوراس، ثم السلفادور وصولا إلى تيخوانا ، ومنها إلى مكسيكو سيتي، ثم إلى الجدار.، كل ذلك بمساعدة المهربين.. وتتراوح مدة الرحلة بين 12 و15 يوما، إن سلم "المهاجر" من قوات مكافحة الهجرة في المكسيك ومن العصابات الإجرامية، أما تكلفتها المالية فتتراوح بين 3 ملايين و500 ألف أوقية قديمة و4 ملايين..
   سألتهم عن الأهداف التي يريدون تحقيقها هناك، ووسائلهم، فأجمعوا على أنهم ذاهبون إلى "اباتيك اليمنيين"، إلا واحدا قال إنه سيعمل سائقا للشاحنات، فتلك مهنته التي كان يمارس من قبل.. قلت للفتى الذي معهم: لو حاولت إكمال دراستك هناك في أمريكا والحصول على شهادة، ألا يكون ذلك أفضل ؟ نظر إلي باستغراب، ولم يجب، فقال له أحد الشباب: عليك أن تذهب إلى المنظمة المعنية بحماية اللاجئين، وستوفر لك السكن والمعاش، فأنت ما زلت صغيرا، و"ما امعجلك شي اعل الفظة".. لكنه أيضا لم يعلق، بل اكتفى بتقليب بطاقات الصعود إلى الطائرة (5 بطاقات) ، وكأنه يستعجل المغادرة ..
  تركت الشبان الثلاثة والفتى، وتوجهت إلى آخرين وحاورتهم أيضا.. سألت أحدهم عن سبب تركه للبلاد والذهاب في رحلة محفوفة بالمخاطر ، فاكتفى بالقول : "أما رأيت تعامل سلطات المطار معنا ؟ لقد سهلوا لنا كل الإجراءات، وكأنهم فرحون بهجرتنا، أو على الأقل لا تزعجهم"؟ فقلت : بلى، لاحظت ذلك.. 
  انتبذت ركنا قصيا في الصالة، وجلست أفكر في ما سمعت ورأيت .. 
  لا شك أن ترك الأهل والوطن صعب على النفس، لكن الأصعب منه العيش في وطن لا يعطيك كسرة خبز إلا بضعف الثمن، ولا تحصل فيه على حقك إلا بشق الأنفس ، ويصدق فيه قول الأمير المجاهد أسامة بن منقذ :
لَحى اللهُ أرضا يرشف المرءُ رِزقه == بها مكرها رشف الذّعاف مِن السَمّ
تُشَيّب حباتِ القلوبِ بجَورها == وتُهرِم إنسان العُيون مِن الهَمِّ
   عندما يهاجر شباب في مقتبل العمر، بعضهم ينوء ظهره بالشهادات العلمية، عن وطنهم دون إحساس بذرة حزن، أو ألم، فاعلم أنهم أكرهوا على الخروج، ولا لوم عليهم، بل اللوم على من دفعهم إلى الهجرة دفعا.. انتشار الفساد والمحسوبية، وسيطرة ثلة قليلة من الناس على خيرات البلاد واستبدادها بها، مؤذن بالشر، وعلى العقلاء تدارك الوضع..
   طالعت قبل أيام منشورات لفقهاء يحذرون فيها من الهجرة إلى "دار الكفر"، وهم في ذلك ينطلقون من الحرص على دين "المهاجرين"، لكنهم غفلوا عن حقيقة أن "المنكرات والمحرمات" اليوم ليست أكثر في "دار الكفر" منها في "دار الإسلام".. كما أن "الدين" لا ينفصل عن "الدنيا"، ففي الأثر : "كاد الفقر أن يكون كفرا"، فكيف إذا اجتمع الفقر والظلم ، وغياب المساواة في الحقوق والواجبات ؟..