تابعتُ نتائج باكالوريا 2023 على المستوى الوطني هنا في موريتانيا، وتابعتُ بعض نتائجها في دول شقيقة كالجزائر والمغرب وتونس، وبعد هذه المتابعة وجدت أن تلك النتائج تستحق قراءة خاصة، وذلك لكونها أبرقت برسائل في غاية الأهمية، تستحق أن نتوقف معها ونقرأها بتأمل، بل ونستثمرها في تحصين شبابنا ضد مخاطر المخدرات والترويج للشذوذ والفكر الإلحادي والإساءة إلى المقدسات، خاصة وأن الترويج لتلك المنكرات لا يمكن منع وصوله إلى شبابنا، فهو يأتي من فضاءات الانترنت المفتوحة التي لا يمكن غلقها.
حَفظوا القرآن فتفوقوا في الباكالوريا
لقد كان أبرز قاسم مشترك بين الأوائل على المستوى الوطني في هذه الدول الأربع هو حفظ القرآن، ففي موريتانيا احتل الرتبة الأولى وطنيا حافظ القرآن التلميذ محمد المصطفى سيدي محمد النابغة بمعدل 17.02(شعبة العلوم الطبيعية)، وفي تونس احتل الرتبة الأولى وطنيا التلميذ عبد الرحمن بن احميدان بمعدل 19.75، (شعبة الرياضيات)، وهو الحاصل على جائزة أصغر حافظ للقرآن في تونس في العام 2016، وفي الجزائر احتل الرتبة الأولى على المستوى الوطني التلميذ بلقداش محمد الأمين بمعدل 19.50 (شعبة علوم تجريبية)، وهو الحاصل على الجائزة الأولى في حفظ القرآن في ولايته.
طبعا لا يتوقف الأمر على الأوائل وطنيا، ففي موريتانيا مثلا نجد أن الأولى على مستوى الباكالوريا شعبة الآداب الاصلية هي حافظة القرآن التلميذة فاطمة صمب أعليوات، والأول على مستوى الحوض الغربي شعبة العلوم الطبيعية هو حافظ القرآن التلميذ محمد الأمين سيدي المختار حني. وفي تونس نجد أن الأول في شعبة العلوم التقنية، وبمعدل 19.61 هو حافظ القرآن، وإمام صلاة التراويح التلميذ مهتدى باش طبجي، والأولى بولاية المهدية بمعدل 19.20 (شعبة الرياضيات) هي حافظة القرآن أميمة يعيش. وفي المغرب تصدر الرتبة الأولى على مستوى جهة سوس ماسة حافظ القرآن التلميذ أنس أرفاك بمعدل 19.33. هذه مجرد أمثلة جمعتها على عجل، ويمكن لكل من يقوم ببحث أعمق أن يأتي بأمثلة أخرى.
أسر ربت فأحسنت التربية
القاسم المشترك الثاني الذي يجمع بين المتفوقين في الباكالوريا، هو أنه وراء كل متفوق أسرة عظيمة، ربت فأحسنت التربية. لقد تابعت مقابلات عديدة مع بعض آباء وأمهات المتفوقين خارج موريتانيا، وكانت كلها تبرز دور الأسرة في ذلك التفوق. وفي موريتانيا يمكن القول بأن أسرة الأولى في الباكالوريا (شعبة الآداب الأصلية) تبقى خير دليل على الدور الذي يمكن أن تلعبه الأسرة في نجاح وتفوق الأبناء.
كانت أسرة الأولى في الباكالوريا شعبة الآداب الأصلية أسرة استثنائية بحق، ولو لم تكن أسرة استثنائية لكان مصير الطفلة فاطمة لا يختلف عن مصير غيرها من بنات العائلات الفقيرة في القرى والأرياف. لم تكن هذه الطفلة لتُحظى بدخول المدرسة أصلا، وكان من المحتمل أن يدفع بها والداها إلى العمل المبكر لمساعدته في أعباء الحياة، وربما دفع بها لأن تكون صاحبة "طابلة" تبيع للتلاميذ في مدرسة قريتها، وتسأل نفسها في كل يوم لماذا يدرس من هو في سنها في المدرسة، وتحرم هي من الدراسة؟ حتى وإن افترضنا أن والدها سمح لها في طفولتها بالدراسة، فالراجح أنه كان سيأخذها من المدرسة بعد الحادث الذي تعرض له وجعل منه مقعدا، وبذلك تصبح التلميذة فاطمة واحدة من آلاف بل وعشرات آلاف الفتيات المتسربات من المدرسة.
لم تكن فاطمة لتُحظى بالدراسة، وتتاح لها بالتالي الفرصة لأن تتفوق في الباكالوريا، لو لم يكن والدها رجلا مكافحا واستثنائيا أصر على أن يدرس أبناءه رغم الفقر والإعاقة الجسدية.
هذه ليست هي الرسائل الوحيدة التي بعثت بها نتائج باكالوريا 2023، فهناك رسائل أخرى ربما نتحدث عنها في مناسبة أخرى، ولكننا الآن سنكتفي بهتين الرسالتين مع تقديم بعض المقترحات التي قد تمكننا من استثمار هتين الرسالتين أحسن استثمار في كل ما من شأنه أن يحصن أبناءنا من مخاطر المخدرات والشذوذ والفكر الإلحادي.
مقترحات
1 ـ تستحق الأسر التي ربت أحسن تربية، والتي كان لها دور كبير في تفوق الأوائل في الباكالوريا أن تُكَرَم، وفي هذا الإطار، وعلى مستوى ما يمكن أن يساهم به المجتمع المدني، فقد أعلنا في جمعية خطوة للتنمية البشرية عن "وسام الأب المثالي" الذي سيمنح في هذا العام لوالد التلميذة التي حصلت على الرتبة الأولى في الباكالوريا شعبة الآداب الأصلية، كما سنمنح أوسمة تكريمية أخرى لآباء وأمهات التلاميذ الأوائل في الشعب الأخرى؛
2 ـ نقترح على قناة الأسرة أن تطلق برنامجا تلفزيونيا أسبوعيا يستمر لعام كامل، تستضيف في كل حلقة من حلقاته إحدى الأسر التي احتل أحد أبنائها المرتبة الأولى في أي شعبة من شعب الباكالوريا، وفي أي مدينة من مدن الوطن، وبذلك تكون هذه القناة قد كرمت إعلاميا أسر المتفوقين في الباكالوريا في كل أنحاء الوطن، من خلال ذلك البرنامج، وتكون كذلك قد أضافت إلى برامجها الموجهة إلى الأسرة برنامجا مفيدا، من شأنه أن يعزز من دور الأسرة التربوي؛
3 ـ سعيا لتحصين أبنائنا من كل تلك الشرور المذكورة أعلاه فإنه قد يكون من المهم جدا أن نقدم لشبابنا قدوات شبابية، وخير قدوة يمكن تقديمه لهم هو ذلك الشاب الذي جمع بين حفظ القرآن والتفوق الدراسي. ومن هنا فإننا نقترح تخصيص جوائز سنوية للتلاميذ الذي جمعوا بين حفظ القرآن والتفوق في الامتحانات والمسابقات الوطنية. يمكن لوزارة الشؤون الإسلامية أو هيئة علماء موريتانيا أو قناة المحظرة أن تتكفل بتلك الجوائز السنوية؛
4 ـ من المهم كذلك تقديم هذه القدوات الشبابية إعلاميا، ويمكن أن يتم ذلك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك من خلال إطلاق برنامج تلفزيوني يستضيف في كل حلقة من حلقاته أحد شبابنا المتميزين الذين استطاعوا أن يجمعوا بين حفظ القرآن والتميز الدراسي، ويمكن أن يتوسع البرنامج ليشمل كل شاب حفظ القرآن وتميز في أي مجالات من المجالات الأخرى، سواء كان ذلك المجال ثقافيا أو رياضيا أو مهنيا أو دراسيا؛
ويبقى أن اختم هذه المقترحات بالقول بأننا ما زلنا بحاجة ـ وعلى المستويين الرسمي والشعبي ـ إلى المزيد من تكريم المتفوقين في الباكالوريا. ففي الجزائر مثلا فإن وزير التربية هناك هو من يبلغ شخصيا الثلاثة الأوائل على المستوى الوطني في الباكالوريا بنجاحهم متفوقين مع وعدِ بجائزة للأول. وفي الولايات التي يتفوق بعض أبنائها تنظم احتفالات على المستوى الجهوي، رسمية وشعبية، لصالح المتفوقين في كل ولاية.
حفظ الله موريتانيا...