بسم الله الرحمن الرحيم
((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)) صدق الله العظيم.
ودعت أمس ابن عمتي وأخي العزيز الحقوقي الإداري محمدن ولد اباه ولد حامد الذي تقاسمت معه البيئة الطاهرة الطيبة التي ولد ونشأ وترعرع بها، وهي بيئة تعطي عناية كبيرة للأخلاق ممارسة وتعليما. كان محيطه الضيق نموذجا رائعا من تلك البيئة بطلاه رجل وامرأة: والده المرحوم أباه ولد حامد كان رجلا لا كالرجال وأمه المرحومة عائشة بنت محمد الأمين ولد المان وكانت أيضا امرأة لا كالنساء، ربَّياه وإخوته تربية نقية سليمة قوامها الدين والأخلاق والأدب والتواضع والصدق والاستقامة والبساطة.
لقد مثل فقدان المرحوم خسارة كبيرة لي شخصيا ولأسرته ولأقاربه ولأصدقائه ومعارفه، وكثير ما هم. ويبرهن على كثرة هؤلاء الأصدقاء والمعارف حضورهم المكثف والنوعي المتعدد المشارب والألوان والأعراق والأعمار للصلاة على جثمانه الطاهر. غير أن الخاسر الأكبر من رحيل المرحوم هو "الدولة الجمهورية" التي كرّس وقته وجهده وكفاءته لخدمتها بنزاهة وإخلاص قلَّ نظيرهما.
فالفقيد كان من أخلص أطر الدولة وأكثرهم استقامة وتفانيا وإخلاصا، لم يمارس قط النفاق والتملق والتحلق حول موائد الحكام ولا في الصالونات ولا المبادرات الداعمة.
حكى لي، وهو صدوق، أنه كان ذات مرة متجها من محل سكنه بمقاطعة لكصر إلى مكتبه بإدارة الوظيفة العمومية، فشاهد صحفيا صديقا له ينتظر التاكسي فتوقف ليأخذه معه في السيارة، وفي الطريق سأله عن وجهته ليوصله إليها فقال الصحفي إنه يتجه إلى مقر الحزب الجمهوري. فكّر المرحوم مليا عسى أن تسعفه ذاكرته بمقر هذا الحزب الحاكم، إلا أنها لم تساعده فقال للصحفي: أين يقع مقر الحزب الجمهوري؟ نظر إليه هذا الصحفي نظرة استغراب قائلا: هل يوجد مدير في الدولة لا يعرف مقر الحزب؟ فردّ عليه محمدن: أنا شخصيا لا أعرف مقره وإذا كنت تريد أن أوصلك إليه فعليك أن تحدد لي المكان.
وفي إحدى المرات اتصل به أحد أصدقائه لتهنئته على عضوية إحدى لجان هذا الحزب الجمهوري (اللجنة القانونية إذا لم تخنّي الذاكرة)، فرد على هذا الصديق: "هل أنت تمزح؟ أنا لست منضويا تحت يافطة أي حزب سياسي". غير أن الصديق أكد له جدية الموضوع وأنه شاهد اسمه مع الوظيفة ضمن قائمة أعضاء تلك اللجنة الحزبية. بادر المرحوم لمقابلة وزيره الذي قال له: "نعم أنا من اقترحك عضوا في تلك اللجنة، ألف مبروك" فما كان منه إلا أن طلب من الوزير أن ينزع اسمه من قائمة أعضاء اللجنة مؤكدا له أنه مصمم على عدم التخندق السياسي لأنه مجرد خادم للدولة (Un simple serviteur de l’Etat).
كان المرحوم بإذن الله حريصا على احترام قوانين ونصوص الدولة التي ساهم في إعداد ومراجعة الكثير منها، يحترمها احتراما مطلقا في المكتب وفي البيت وفي السيارة. ربما كان الموريتاني الوحيد الذي يضع حزام النجاة قبل أن يشعل محرك السيارة. ولعمق إيمانه بالنصوص لم يعتبر تعيينه في منصب مدير الميزانية ترقية لأنه كان مستشارا بالوزارة الأولى، وهو منصب أعلى ابروتوكوليا من إدارة الميزانية.
وكان صارما في احترام الشأن العام عفيفا عن المال العمومي مستقيما في التسيير، ترك بصماته تنظيما وتشريعا حيثما حلّ: في الوظيفة العمومية، في الأمانة العامة لوزارة العدل، في اللجنة الوطنية للمسابقات، في المحكمة العليا وفي الوزارة الأولى.
لم يكن الفقيد شخصية مرموقة على الصعيد الوطني فقط، بل إن سمعته وعطاءه تجاوزا حدود البلد من خلال تجربته المشرفة في المنظمة الدولية الفرانكفونية التي نال تقدير وإعجاب مسؤوليها على اختلاف درجاتهم وجنسياتهم والتي غادرها طواعية خوفا على مستقبل أبنائه وحرصا على أن لا ينشؤوا في محيط لا يساعد في تربيتهم الدينية والأخلاقية.
نَم قرير العين مرتاح البال، وتأكد أن تضحياتك ومساهماتك في بناء دولة العدل والإنصاف لن تذهب سدى، ففضلا عن كونها مندرجة في كفة حسناتك، فإن أصدقاءك ومحبيك ومن تأثروا بسلوكك في الإدارة والتسيير سيواصلون حمل المشعل خفاقا خدمة لهذا الوطن الذي آمنت بأن خدمته وحبه من الايمان.
وختاما نتضرع إلى المولى عز وجل أن يسكنك فسيح جناته وأن يلهم الأسرة والأهل والأصدقاء الصبر والسلوان راجين أن نكون جميعا من ((الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" (صدق الله العظيم)).