قبل أشهر قليلة من إقالته من منصبه دعا وزير المياه الموريتاني السابق سيدي محمد ولد الطالب أعمر إلى تدبير أكثر من 430 مليون دولار لإقامة صرف صحي في العاصمة نواكشوط لوحدها.
تأتي هذه الدعوة المغلقة برقم خيالي يمثل مئات المليارات من الأوقية، بعد كثير من المحاولات والإخفاقات التي عانى منها قطاع الصرف الصحي، وأدت إلى خسائر كبيرة، دفعت ثمنه البلاد من خلال تشريد مئات الأسر سنويا في مدن عديدة، وتهديد العاصمة بانزلاق التربة وانتشار العفونة والباعوض وغلق لممرات وتآكلات الطرق، وربما اختفاء أجزاء كبيرة من العاصمة تحت عنفوان المحيط وتآكل التربة.
الصرف الصحي .. قصة الإخفاق المسافر مع الأنظمة
عانت موريتانيا لفترات طويلة من خطر السيول التي كانت تجتاح البلاد من حين لآخر بسبب مد النهر أو المحيط الأطلسي وفي أحيان كثيرة بسبب سيول الأمطار، وسبق أن تدمرت مدينة روصو مطلع الخمسينيات، بسبب السيول كما تضررت نواكشوط بسبب سيول هائلة عصفت بالمدينة الفتية قبل الاستقلال بسنوات قليلة، فيما كانت مدن عديدة أخرى عرضة للسيول مثل أطار وغيرها، بفعل عدم المحافظة على النظام البيئي.
أما مدن الضفة والتجمعات السكانية فقد كانت دائما عرضة لسيول هائلة، وقد كان وجود العاصمة على ضفاف المحيط تشييدا لخطر دائم تفاقم مع الزمن، بعد أن أصبح اللسان الرملي النائم في كف المحيط مأوى لأكثر من مليون من سكان البلاد، الذين بالغوا في الإساءة للنظام البيئي.
ويمكن اختصار مراحل التعامل الرسمي مع الصرف الصحي في التالي:
- 1961-1965: إنشاء أول شبكة للصرف الصحي في العاصمة نواكشوط بتمويل ورعاية فرنسية، وسط العاصمة بطول مجتمع لا يتجاوز 38 كلم
· شبكة الصرف الصحي الثانية التي تم إنشاؤها مع نهاية 1984 ولم يتم استخدامها لحد الآن
· أقيمت منذ العام 2015 منشآت لصرف مياه الـأمطار والمياه المتسربة جراء مياه آفطوط الساحلي، وهو ما مكن بعض السكان من العودة إلى منازلهم التي هجروها في أحياء بغداد وسوكوجيم.
عاصمة فوق الماء
خلال العقود الثلاثة الأخيرة تفاقمت مشكلة الصرف الصحي في العاصمة، مع تزايد معدلات الأمطار، واستنزاف الجدار الرملي الذي كان يحيط بالعاصمة بسبب استخدامه غير المحسوب في عمليات التشييد والبناء، وزاد من خطورة الرمل تمدد الملوحة، إلى أنحاء متعددة من العاصمة.
ومن الأحياء التي تضررت بشكل كبير أحياء من مقاطعة السبخة عرفت يومها باسم حي ملح قبل أن تقرر السلطات ترحيله إلى المنطقة المعروفة حاليا بملح في مقاطعة توجنين.
لاحقا ستتمدد ألسنة الملوحة إلى حيي بغداد وسوكجيم في عمق العاصمة، منهية بذلك حالة من الرفاهية التي عاشها الحيان لأكثر من عقدين من الزمن، ومن بعدها تمددت ألسنة الملوحة إلى حي سيتي ابلاج الذي تأسس برعاية وتمويل من شركة سوكجيم، قبل أن تعيش حالة تضرر هائلة بسبب مياه الأمطار وارتفاع الملوحة في التربة مما أدى إلى تآكل كثير من مساكن الحي، وهجرة السكان إلى أحياء أخرى.
وبعد فترة وجيزة ستلتحق أجزاء واسعة من مقاطعة دار النعيم وحي الدار البيضاء بالميناء بالأحياء المهددة بخطر انهيار التربة، فيما استقبلت ألسنة المحيط والتربة المنهارة الأحياء الجديدة قرب الجامعة حيث ترتفع أسعار القطع الأرضية الغارقة في التربة المنهارة إلى قرابة 80 ألف دولار، وهو مبلغ يكفي لشراء شقة في المدينة المنورة.
أما في الداخل فقد تعرضت مدن عديدة لسيول خطيرة، كما وقع في مدينة الطينطان سنة 2007، وسيول أخرى لاحقة في روصو وسيلبابي وعدل بكرو، ومدن أخرى متعددة.
سياسات ومليارات.. وإخفاقات
وصلت أزمة الصرف الصحي أعلى محطاتها في عهد الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، حيث باتت أحياء متعددة من العاصمة تتنفس تحت الماء، وتشردت مئات الأسر، مما اضطر النظام إلى توقيع اتفاقية مع شركة صينية بمبالغ تصل إلى 15 مليار أوقية، وقد بدأت الشركة المذكورة في إقامة شبكة صرف صحي وشمل عملها إنشاء 11 كلم من شبكة الصرف الصحي، وإقامة مراكز لتجميع وصرف المياه عن مقاطعات تفرغ زينة والسبخة والميناء، غير أن المشروع الصيني توقف فجأة دون معرفة الأسباب.
مع وصول الرئيس الغزواني إلى السلطة، استقبلته أزمات سيول شديدة في سيلبابي وعدل بكرو ومدن أخرى، وضمن أعمال متعددة تم رفع قدرات المكتب الوطني للصرف الصحي، وإنشاء أقطاب جهوية تتبع له، لكنها ما تزال لحد الآن تتحرك بوسائل محدودة، ويتعلق الأمر _ قطب في لعيون ويغطي الحوضين الشرقي والغربي ولعصابه
_ قطب في ألاگ ويغطي لبراكنه وتگانت
_ قطب في كيهيدي ويغطي سيلبابي وكيدي ماغه
_ قطب في أطار ويغطي آدرار و تيرس الزمور وانشيري
إضافة إلى إقامة أسطول يتكون من 21 صهريجا موزعة على ولايات نواكشوط الثلاثة، مزودة بالكادر البشري وتم وضعها تحت تصرف الولاة للتدخل في الوقت المناسب.
وبالإضافة إلى ذلك أقامت الحكومة شبكة للصرف الصحي في روصو، بدعم وتنفيذ صيني، لكنها أظهرت عجزها في أول اختبار لها في الأسابيع الأوولى من العام 2023، جراء الأمطار المتدفقة.
لماذا يتفاقم العجز
يتأسس عجز الصرف الصحي في موريتانيا على عدة أسس أبرزها:
- سوء اختيار مواقع المدن، والتي تأسست إما على ضفاف النهر أو المحيط أو في الأودية ومصاب الجبال ومجرى السيول، مما يجعلها دائما عرضة للخطر.
فمعروف أن للنهر فيضانه الشتوي قبل محاولة السيطرة عليه.
- تآكل التربة في مناطق واسعة من العاصمة، بسبب امتداد الرطوبة القادمة من المحيط، أو بسبب نظام الصرف الصحي التقليدي الذي أغرق العاصمة وجعلها عائمة فوق نهر قذر من مياه المواسير.
- غياب سياسة حكومية استباقية وضعف إجراءات العلاج.
- ضخامة المبالغ المتوقعة لإقامة صرف صحي.
- انعدام الرؤية الواضحة لدى المسؤولين عن الشأن العام، فرغم ماجنته الحكومات المتعاقبة من مبالغ خيالية من بيع الأراضي فإن أيا منها لم تقم بما يجب عليها القيام به، وظلت العاصمة تتوسع دون أن يرافق ذلك التفكير في بنية تحتية تناسب العاصمة وخلافا لذلك ظل الهدر للموارد هو سيد الموقف.
- سوء توزيع مياه آفطوط الساحلي: تحولت نعمة جلب المياه من النهر، الحلم الذي راود موريتانيا لعشرات السنين إلى نقمة، فالظاهر أن تمويل المشروع لم يبن على تمديدات تناسب كمية الماء المهولة القادمة من الجنوب فانهالت المياه مدمرة ماكان شبكة تمديدات، واختلط النهر الجاري بمياه المواسير فتحولت النعمة إلى نقمة.
وباقرار وزير المياه والصرف الصحي السابق، فغاية ماتمكنت منه الوزارة هو تقليص حجم المتسرب من المياه لأقل من 50% من الكمية الواردة من النهر وأكثر من 40% منها.
- تراجع البرامج الوطنية الهادفة لمواجهة خطر غرق العاصمة، مثل توقف مشروع الجدار الرملي الميكانيكي، وتوقف مشروع التشجير الذي انطلق خلال السنوات المنصرمة.
وفي مواجهة هذا الخطر لا يبدو أن الدولة تملك خطة فعلية لمواجهة الخطر الذي يتهدد العاصمة التي تواجه خطر الغرق مع كل موسم ماطر.
ــــــــــــــــــ
نعيد نشر هذه المادة لأهميتها