مع بداية تشكل نظام متعدد الأقطاب، وانتهاء نظام القطب الواحد، فإنه قد يكون من الضروري لدبلوماسية بلادنا أن تلتفت شرقا، ودون أن تدير ظهرها للغرب، وهذا بالضبط هو ما تعكسه الزيارات الأخيرة لفخامة رئيس الجمهورية ومعالي الوزير الأول.
الالتفات شرقا
في ظل بروز الصين كقوة اقتصادية كبرى، وفي ظل الحضور العسكري الروسي على حدودنا الجنوبية، والذي أصبح واقعا لا يمكن تجاوزه شئنا ذلك أم أبينا، يكون في هذه الحالة من واجبنا أن نلتفت شرقا للاستفادة اقتصاديا من الصين (القوة الاقتصادية التي أصبحت اليوم تنافس ـ وبقوة ـ أمريكا)، وكذلك لتحصين بلادنا أمنيا من خطر الوجود العسكري الروسي، والذي أصبح يتمدد في المنطقة من خلال قوات "فاغنر".
زيارة سيكون لها ما بعدها
كانت زيارة الصداقة والعمل التي قام بها فخامة رئيس الجمهورية إلى جمهورية الصين الشعبية ابتداءً من يوم الجمعة الموافق 28 يوليو 2023 زيارة ناجحة وبكل المقاييس، وكان من نتائجها:
1 ـ إعفاء موريتانيا من 150 مليون إيوان من الديون الصينية (حوالي 8 مليارات أوقية قديمة)؛
2 ـ اتفاقية إطار بين البلدين في إطار مبادرة "الحزام والطريق"؛
3 ـ إعطاء رئيس مجلس الدولة الصيني تعليماته للجهات الفنية في بلده بالشروع الفوري في إجراء الدراسات الفنية الضرورية لإنجاز مشروع صرف صحي في مدينة نواكشوط. إن تشييد صرف صحي بالعاصمة نواكشوط سيكون واحدا من أهم مشاريع البنية التحتية الكبرى في البلد، وهو مشروع طال انتظاره كثيرا، وكان من المفترض أن ينجز منذ عقود. للتذكير فإن في سجل الصين مشاريع كبرى أنجزتها لصالح العاصمة نواكشوط، ومن تلك المشاريع ميناء نواكشوط المستقل الذي رفض الغرب تشييده بحجة أن كلفته كانت كبيرة، ومنها أيضا توفير المياه من بحيرة "إديني" لسكان نواكشوط، وذلك بعد موجة عطش شديدة عرفتها العاصمة نواكشوط بسبب تعطل في محطة تصفية مياه البحر؛
4 ـ قبول الرئيس الصيني للدعوة التي وجهها له فخامة رئيس الجمهورية لزيارة بلادنا، وفي حالة تمت هذه الزيارة، فسنكون أمام زيارة تاريخية، فهي ستكون أول زيارة يقوم بها رئيس صيني لبلادنا، فلم يحدث أن زار أي رئيس صيني موريتانيا، حتى في عهد الرئيس الراحل المختار ولد داده، والذي كانت علاقات الصين مع بلادنا في عهده علاقات قوية جدا.
نعم كانت علاقاتنا مع الصين قوية جدا، ولكن لم يحدث أن زارنا رئيس صيني، وذلك في وقت كانت فيه زيارات رؤساء الصين إلى السنغال تتكرر، ومن المعروف أننا كنا قد سبقنا السنغال في إقامة علاقات مع الصين.
فمن المعروف تاريخيا أن الرئيس الراحل المختار ولد دداه رحمه الله، قد لعب دورا بارزا في استعادة الصين لعضويتها في الأمم المتحدة. فخلال فترة رئاسته الدورية لمنظمة الوحدة الإفريقية كان يحث القادة الأفارقة للتصويت لصالح استعادة الصين لعضويتها في الأمم المتحدة، وهو ما تحقق في يوم 25 أكتوبر1971، خلال التصويت على قرار الأمم المتحدة رقم (2785)، والذي نصَّ على استعادة جمهورية الصين الشعبية لمقعدها في الأمم المتحدة، والاعتراف بممثل حكومتها باعتباره الممثل الشرعي الوحيد للصين في الأمم المتحدة. وقد صوتت لصالح هذا القرار الأممي 76 دولة، أكثر من ثلثها من إفريقيا ( تحديدا 26 دولة إفريقية), وهو الشيء الذي جعل الرئيس الصيني الراحل "ماو تسي تونغ" يقول كلمته الشهيرة : "إن أصدقاءنا الأفارقة هم الذين أوصلونا إلى الأمم المتحدة".
قبل التصويت على ذلك القرار بست سنوات، وتحديدا في يوم 19 يوليو 1965 أقامت موريتانيا والصين علاقات دبلوماسية، وبموجب ذلك تم قطع العلاقات مع تايوان التي كانت قد فتحت في فبراير 1961 أول سفارة في نواكشوط، وقد ظلت سفارتها لمدة أشهر هي السفارة الوحيدة في عاصمتنا الناشئة.
خلاصة القول في هذه الجزيئة هو أنه قد آن الأوان لأن نعزز علاقاتنا مع الصين، وأن نستفيد من رصيدنا التاريخي لتعزيز تلك العلاقات، فالصين أصبحت قوة اقتصادية عظمى، ونحن أولى من غيرنا في إفريقيا ببناء علاقات صداقة قوية معها.
الوزير الأول في الروس
إن بناء علاقات صداقة مع الروس يدخل في خانة الالتفات شرقا، ولذا فإن مشاركة موريتانيا من خلال وزيرها الأول في قمة روسيا وإفريقيا الثانية، والتي انعقدت يومي 27 و28 يوليو في مدينة سانت بطرسبورغ، كانت مشاركة في المستوى المطلوب.
إن الحضور العسكري الروسي في المنطقة أصبح حقيقة لا يمكن تجاهلها، شئنا ذلك أم أبينا، ومن المحتمل أن يتمدد هذا الحضور في ظل السخط المتنامي لدى بعض الشعوب الإفريقية ضد فرنسا، وضد كل ما له صلة بها.
المقلق في الأمر هو أن هناك إرهاصات لتشكيل حلف روسي في المنطقة، وهو ما قد ينذر بصراع نفوذ مع حلف الناتو في المنطقة، وقد بدأت بوادر تشكيل حلف روسي في المنطقة تظهر، وذلك من خلال رفع الأعلام الروسية والمالية والبوركينابية في مظاهرة نظمها بعض مؤيدي الانقلاب في النيجر.
خلاصة القول في هذه الفقرة: من المهم تعزيز العلاقات مع الروس، إن لم يكن من الأجل الاستفادة اقتصاديا أو عسكريا من هذا البلد، فعلى الأقل لضمان تجنب شره.
نعم لطمأنة الغرب
كما قلنا سابقا فإن الالتفات شرقا لا يعني إدارة الظهر للغرب، ولذا فقد كان من المهم أن يزور فخامة رئيس الجمهورية فرنسا بعد زيارته للصين، ومن شأن تلك الزيارة أن تبعث برسائل طمأنة للغرب مفادها أن تعزيز العلاقات مع الصين أو الروس لن يكون على حساب العلاقات مع الغرب.
لقد بدأت علاقاتنا مع الغرب تتعزز في السنوات الأخيرة، ولعل من الدلائل التي يمكن تقديمها في هذا السياق تصنيف موريتانيا في التقرير السنوي الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية حول أوضاع الاتجار بالبشر لسنة 2022، تصنيفها ضمن قائمة "بلدان المستوى الثاني بدون مراقبة"، وهو ما سيسمح لبلادنا بالمبادلات التجارية مع الولايات المتحدة، والحصول على التمويلات منها.
يُدرك الغرب أهمية بناء علاقات قوية مع موريتانيا (البلد الوحيد المستقر أمنيا وسياسيا في منطقة الساحل)، وندرك نحن في موريتانيا أهمية الحفاظ على علاقتنا بالغرب، وسيبقى هذا الوعي المتبادل بأهمية تلك العلاقات هو الضامن الوحيد لتعزيزها وتقويتها.
وتبقى كلمة أخيرة موجهة إلى فرنسا
على فرنسا أن تُدرك بأن العالم من حولها يتغير، وأن نفوذها في تراجع، وأن السخط الشعبي ضدها يتصاعد بوتيرة كبيرة في المنطقة، ولذا فقد أصبح لزاما عليها أن تتوقف عن ممارسة سياستها الاستعمارية، وفرض لغتها وقيمها على دول ذات سيادة، فالاستمرار في ذلك لن يؤدي إلا لمزيد من السخط، وربما إلى مزيد من ارتماء بعض مستعمراتها القديمة في أحضان الروس نكاية بها.
لقد أصبح هناك من يقول متهكما بأن الدول الفقيرة التي تقيم علاقات مع الصين ستحصل على مشاريع في البنية التحتية، والدول الفقيرة التي تقيم علاقات مع الروس ستجد دعما عسكريا، أما الدول الفقيرة التي تقيم علاقات مع فرنسا فلن تجد إلا الترويج للشذوذ الجنسي، والمطالبة بالخروج عن الفطرة البشرية السليمة.