في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منا إلى إطلاع متابعينا الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل وازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد القامات الفكرية والسياسية ممن لهم دراية بدهاليز السياسة وشؤون البلد وأهله، وهو إلى ذلك ملم بواقع البلد، نحاوره ونستجلي من خلاله ما وراء الخبر، في لقاء شامل، لما لضيفنا من خبرة سياسية؛ فهو أحد رواد التأسيس حيث واكب الدولة الموريتانية منذ تأسيسها، مشاركا في اختيار رموزها، فقد شغل عدة مناصب وزارية في عهد الرئيس الأسبق المختار ولد داده أول رئيس لموريتانيا ما بعد 1960م، من بين تلك الوزارات وزارة التعليم، فقد تم أول إصلاح جاد للتعليم في عهده (إصلاح 1974). وهو الإصلاح الذي بشر بعودة الهوية للبلاد والعباد. فأهلا وسهلا بضيفنا الكريم، الوزير محمذن ولد باباه.
موقع الفكر: نود منكم تعريف المشاهد والقارئ بشخصكم الكريم من حيث تاريخ ومحل الميلاد / الدراسة وأهم الشهادات / الوظائف التي تقلدتم؟
الوزير محمذن بن باباه: درست في مدرسة أبي تلميت من العام 1945م إلى 1949م، حيث حصلت على شهادة ختم الدروس الابتدائية، وبعدها قمت بإجراء مسابقة دخول الثانوية في السنغال وقضيت فيها سبع سنين بمدينة سينلوي، من أجل الحصول على شهادة البكالوريا وبعدها انتقلت إلى الجامعة في داكار حيث حصلت على شهادة " الليصانص" ثم انتقلت إلى باريس والتحقت بالمعهد العالي للدراسات الاسلامية التابع لجامعة " السوربون" وقضيت فيه ثلاث سنوات قمت فيها بدراسة عليا كان موضوع رسالتي على شاعر من شعراء موريتانيا يدعى أبو بكر الملقب " بكٍ" ونلت شهادة الدراسات العليا، ثم ذهبت إلى لبنان حيث درست عاما في الجامعة العربية التي أسسها عبد الناصر وسكنت هناك مع خالي محمد فال البناني ممثل موريتانيا هناك وأمضيت فيها سنة، وبعد تلك السنين رجعت إلى أرض الوطن حيث تم تعييني مفتشا في التعليم العربي خلفا لمفتش يدعى " عكاري" ، ثم رجعت إلى باريس للتحضير لشهادة التبريز لمدة سنة حيث تجاوزت في جزء الامتحان الكتابي ورسبت في جزئه الشفهي، ثم رجعت إلى موريتانيا والتحقت بقطاع التعليم أستاذا في الثانوية الوطنية الوحيدة حينها حيث قضيت فيها سنتين وكان مديرها فرنسي وخلال تلك الفترة بدأ حراك حول مشكل اللغة وهو الحراك المعروف الذي أدى إلى أحداث 1966م
في التقاليد الفرنسية أن الأستاذ الأصغر سنا وآخر الملتحقين بالمؤسسة هو الذي يلقي خطاب نهاية السنة ولأنني الأصغر سنا والأحدث التحاقا بالمؤسسة وبناء على ذلك فقد طلب مني المدير تولي هذه المهمة، فقمت بإعداد الخطاب وطرحت فيه الاشكالية الثقافية لموريتانيا وبينت أنه لا بد للبلد من لغته وأنه لا يستطيع أن ينتج ذهنيا ولا فكريا إلا إذا درس بلغته الأم، عندما وصل المدير الفرنسي الذي كان شخصا هادئا ناداني وقال لي هل ستغير من مضمون هذا الخطاب؟ قلت له لا، حينها ذهب بالخطاب إلى وزير التعليم و بين له خطورة الخطاب فناداني وزير التعليم وقال لي إن هناك نقاطا في الخطاب يجب تغييرها وأنه لا يمكن إعلانها فأجبته أنه طبقا للتقاليد فإن الخطاب ليس ملزما للمؤسسة وإنما هو ملزم لكاتبه وإنني لن أغير فيه وحين أدرك أنني لن أغير رأيي، ذهب بالخطاب إلى الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله وشرح له النقاط التي ينبغي تغييرها في الخطاب بعدها سأله المختار عن رأيي في التغيير فقال له إني رفضت أي تغيير في الخطاب وأني قلت انه ليس ملزما للمؤسسة وإنما هو ملزم لي انا فقط فإن شئتم ألغوا الخطاب وإن شئتم ألقيته كله، فأمره الرئيس أن يتركني ألقي خطابي كما أشاء، وبعد ذلك بدأت الحركة التي سوف تؤدي الى أحداث 1966م، وفي صبيحة اليوم الموالي انتشرت في العاصمة مناشرها.
بعد تلك الأحداث ذهب مدير الثانوية إلى داكار وانتحر هناك. ومن هنا تم تعييني مديرا للثانوية خلفا له وأذكر أنني كنت أعمل بجد من أجل أن يكون التعريب حقيقيا وبكل معنى الكلمة ومن هنا ولدت الحركة المعارضة للتعريب، وأحتدم الصراع حول مشكل الهوية الثقافية للبلد، وأراد وزير التعليم أن يبعدني حيث تم تحويلي أستاذا في مدرسة المعلمين العليا في أول عام لها، وجرت أحداث كثيرة التي يعرفها الجميع، بعد ذلك دعاني الرئيس المختار وأخبرني أنه يريد تعييني وزيرا للتعليم، وحدد لي مهمتي وأن أبدأ بالتعليم فقدتم تعيين الحكومة المعروفة بالأطر المتخرجين من الجامعات وأوصاني أن أجعل خطة لا تجحف بالضعاف وفي نفس الوقت تضمن تطور التعليم وقال لي إنه خلال 15 سنة يجب أن يكون هناك جيل يدرس بالعربية جميع المواد وهذه هي المسطرة التي حددت لي سنة 1971 وطلبت كادرا بشريا من خارج البلد يكون فيه خبراء وفعلا جاء مدرسون من بلدان عربية منها مصر وتونس، وأنشأت لجنة تعمل على إنشاء لجان الابتدائية والثانوية وبدأنا العمل خلال أشهر الراحة الثلاث وقد طلب مني الرئيس المختار رحمة الله عليه أن أرسل له تقرير كل فصل لأن هذا المشروع حساس وخطير وقد يشكل فشله خطرا على أمننا الداخلي و الخارجي ويريد التحقق من كل التفاصيل، وتطلب مني المشروع إنشاء ثلاث قناطر من التعليم المحظري إلى التعليم المدرسي ودخول المرحلة الإعدادية وتحتاج إلى مسابقة بالعربية وجعلتها في السنة الرابعة لدخول الثانوية وأيضا عند دخول نظام الباكالوريا وكان هناك شباب ذو همة عالية و مقتنعين جدا بالمشروع وعملوا على ترجمة وطباعة الكتب وبلغ العمل مرحلة متقدمة، فقدمته للرئيس المختار فقدمه في مجلس الوزراء حيث أثار حوله نقاشا، وتجاوز المشروع المجلس وتوالت الأحداث واستمرت الصراعات والحركات حتى في فترة الرئيس هيداله،
غني عن القول إن موريتانيا حدث فيها انقلاب عسكري أطاح بالحكم المدني وبالرئيس المختار ولد داداه، فتم اعتقال أعضاء الحكومة وأنا من ضمنهم.
موقع الفكر: ما سبب فصلكم عن التعليم؟
الوزير محمذن بن باباه: سبب تحويلي عن وزارة التعليم في العام 1977م، عندما دعاني الرئيس المختار بعدما اشتد الضغط وقال لي "المرجن يغلي وعاد آفار يرفد المغطايه" وسوف تغادر التعليم وجعل مكاني وزيرا آخر وانتهت مهمتي في التعليم وكلفني بوزارة المالية والتجارة، ثم وزارة الدفاع.
موقع الفكر: هل سبب أحداث 1966 هو إضافة مادة اللغة العربية بمعدل ساعتين للنظام التربوي حينها؟
الوزير محمذن بن باباه: لا، أحداث 1966م سببها هو إدخال اللغة العربية في مناهج التعليم.
موقع الفكر: هل سبب الأحداث داخلي أم خارجي وهل هناك دور لدول الجوار في الصراع؟
الوزير محمذن بن باباه: لا أدري، أعتقد أن هناك أياد ساعدت في تأزيم الموقف.
موقع الفكر: حدثنا عن أبرز القصص التي عشتم خلال فترتكم مفتشا للتعليم؟
الوزير محمذن بن باباه: عندما تم تعييني مفتشا للتعليم وجدته في وضعية يعتبرها المجتمع أُضحوكة حيث كان يوصف معلم العربية بأوصاف كثيرة مستهزئة، حقيقة هزمت أمام تلك الأوصاف والنعوت وبدأت بطريقة لتغيير النظرة فقمت بإقامة ملتقى للمعلمين وبدأت الحديث أن المعلم قدوة وأنه ذا قيمة كبيرة ومن المفترض أن يظهر بحالة جيدة وأن يكون محترما وحاولت معهم حتى غيروا من حالهم التي كانت تعطي صورة سيئة عن معلم العربية، ففي ذلك العام الذي قضيت في المفتشية زرت جميع المدارس ولم تكن لدي سيارة وحتى أنني في إحدى الزيارات لم أجد وسيلة نقل إلا طائرة عسكرية تابعة للحيش الفرنسي محملة بالخنازير فركبت.
إذًا الحالة كلها كانت قاتمة وتحز في النفس. وقد نظمت ملتقيين خلال العطلة بهدف تحسين الظروف المادية للمعلم، ومن أجل إعادة الاعتبار للمعلم وتحسين صورته اجتماعيا, وقمت بتنظيم مسابقة لاكتتاب مفتشين موريتانيين، وقد نجح في المسابقة 23 مفتشا، من ضمنهم الجيل الأول المؤسس للتعليم العربي في البلد، وحصلت لهم مقاعد في مدرسة المعلمين في تونس وذهبت بهم إلى هناك، وكانت تلك الرحلة من أصعب أيام حياتي.
وحدد لي التونسيون ثلاثة مفتشين نتيجة لامتلاكهم مستوى جيدا في العربية والقرآن والحديث لكن المواد العلمية التي يراد منهم الإشراف على تعليمها كالرياضيات والجغرافيا والتاريخ لم يكونوا يعرفونها، أخذوا المفتشين وجلسوا أسبوعا حتى وضعوا لهم برنامجا حسب معاييرهم من بدائيات الرياضيات إلى نهاية المستوى الابتدائي وكذلك باقي المواد.
في ذلك العام، أنشأت مجلة بالعربية يقال لها مجلة التعليم كان معي معلما واحدا مزدوجا، كانت المجلة تصدر من داكار تطبع هناك وفيها المقالات التربوية والتشريع المدرسي وكل ما يتعلق بالتعليم من أخلاق وملابس التي أريد من خلالها كما قلت سابقا تحسين صورة المعلم، وغادرت عنها ما زالت تصدر بعد ذلك.
في زمن الرئيس معاوية شغلت منصب مدير المعهد التربوي إلى 1990م.
موقع الفكر: يلاحظ ندرة الكتاب المدرسي من جهة وكثرة مراجعة هذا الكتاب فهل تلك المراجعة استجابة لحاجات وطنية أم تناغما مع توجهات دولية أم لمجرد استدرار التمويل؟
الوزير محمذن بن باباه: خلال فترتي مديرا للمعهد التربوي جلبت المطبعة الموجودة هناك، وكنا نتحكم من خلالها في طباعة الكتب، وبلغني أن هناك من يتاجر بالكتب حيث يصورونهم ويتاجرون بهم، الشامل مثلا نحن من طبعناه في مطبعتنا، أما الندرة فقد بلغني أن أكثر الكتب التي ترسل إلى الولايات الداخلية تعود إلى السوق هنا وتباع وتلك مشكلة كبيرة والسبب المباشر لذلك النقص.
موقع الفكر: بما أنكم قمتم بإصلاح مهدتم له منذ البداية عن طريق تكوين خريجي المحاظر حتى صاروا يعرفون الرياضيات وهذا المشكل ما زال مطروحا اليوم حيث يتم اكتتاب المعلمين عن طريق الباكالوريا وليس لديهم مستوى في الرياضيات فما هي الأسس الموضوعية التي ينبغي طرحها حتى يبلغ الإصلاح مداه اليوم؟
الوزير محمذن بن باباه: اليوم سوف تعرض لكم مشكلة كبيرة ما دمنا نعمل من أجل دولة موحدة ولم يتم حل قضية اللغات ومن الصعب أن نجد نظاما شاملا وذلك سيتضح قطعا لكن لا أعرف متى، وعندما يتم حل مشكلة اللغات فالقضية بسيطة ومعقدة في نفس الوقت، حيث ينبغي أخذ العناصر التي تتألف منها العملية التربوية، وهي المعلم والتوجه السياسي للدولة. المعلم ينظر إليه من ناحيتين أولا من الناحية المادية لأن الظروف التي يعيش فيها المعلم لا يستطيع تقديم شيء من خلالها، ثانيا من الناحية العلمية فالتكوين فيه نقص، التكوين الشخصي والوطني والتربوي والمعرفي حيث ما زال المدرس يلبس ثيابا بالية ويقف أمام مجموعة من الأطفال، وهذا خطأ فالمعلم يجب أن يظهر بشكل راق، يعني هذا أن العملية التربوية معقدة إلى حد بعيد ولا بد لها من التشريع والتطبيق والتمويل من جانب المعلم ومؤطريه.
أعرف مدرسة تبعد عن مفتشية التعليم 18 كلم، طيلة السنة لا يأتيها تفتيش على الرغم من قصر المسافة بينهم، يعني هذا عموما أن التفتيش ضعيف وسيء فلا بد من تغييره جذريا وأن يجعل المفتش في ظروف اقتصادية وعلمية صحيحة
وهذا لا نستطيع الوصول إليه بجهودنا الذاتية إذ لا بد لنا من خبراء نجلبهم من بلدان عربية حيادية كالأردن و تونس مثلا، حتى نؤطر جيلا من المدرسين غير متصلين بما سبقهم وهذا ليس بسيطا، لأن التلاميذ من بينهم من أهله أميين ومن بينهم من لا يهتم بلغة التدريس، وهذا من التناقضات لا يجتمع في مكان واحد فلا بد من فصله، إما يوافق الزنوج على اللغة العربية وكتابة لغتهم الأم بالحرف العربي أو يجرى لهم استفتاء حول لغة التدريس.
إذًا هناك مشاكل لم تضح بعد ولا بد من التفكير بها فنحن نعيشها منذ نصف قرن ولم نستطع حلها إلا بالتعسف، ففي المدرسة الجمهورية من المفترض أن نجد حلا توافقيا لكل هذه التناقضات ويدرس الجميع تحت سقف واحد وبلغة واحدة.
موقع الفكر: معهد اللغات الذي تم إنشاؤه حديثا، هل يكتب بالحرف اللاتيني؟
الوزير محمذن بن باباه: نعم للأسف، كان ذلك خلال فترة العسكر كنت أتمنى على الأقل أن يجروا استفتاء، بين أن تكتب لغتهم بالحرف العربي أو الفرنسي لكنهم لم يفكروا حتى في هذا، يعني ذلك أن المدرسة التي نريد تحقيقها تقف دونها الكثير من العقبات التي يجب التمهيد لها وأكبر تلك العقبات هي لغة التدريس.
موقع الفكر: هل المشكل اللغوي مشكل تربوي أم سياسي؟
الوزير محمذن بن باباه: نعم، فهو مشكل سياسي لأن إخوتنا الأفارقة يستطيعون الدراسة باللغة العربية.
موقع الفكر: هل من كلمة أخيرة؟
الوزير محمذن بن باباه: أرجوا لكم التوفيق والنجاح وأتمنى أن يكون هناك حل نهائي لمشكلة لغة التدريس ويرضي الجميع.