قال الاستاذ الجامعي والباحث الأكاديمي، الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير إن المتاحف الفرنسية تحتفظ بوثائق ضخمة عن موريتانيا من الحقبة الاستعمارية وما قبلها، مضيفا أن هناك عوائق ما زالت تعترض كتابة التاريخ الموريتاني من أبرزها قلة المصادر المحلية المكتوبة بسبب اهتمام الشناقطة بالعلوم الشرعية واللغوية..على حساب البحث التاريخي.
وأوضح الباحث أن حفظ وتمثين التراث مسؤولية الدولة أولا، فهي وحدها القادرة بمؤسساتها وخبرائهاعلى وضع الاستراتيجيات الملائمة لهذا الحفظ والتثمين.
وكشف عن عكوفه هذه الأيام لإصدار نسخة جديدة من كتاب حوادث السنين للعلامة المؤرخ المختار بن حامد وقد قدم لها وقرظها لها شيخ العصر العلامة محمد الحسن ولد الددو وتناول الباحث عدة موضوعات أخرى هامة في مقابلة حصرية مع الموقع هذا نصها:
موقع الفكر: من واقع متابعاتكم ما حجم الوثائق التاريخية الموجودة في المتاحف الفرنسية عن موريتانيا وهل يمكن أن تسهم في قراءة موضوعية للحقبة الاستعمارية وبعدها؟
سيدي أحمد ولد الأمير: شكرا، أولا على إتاحة هذه الفرصة للتفاعل معكم وللتواصل من خلالكم مع قراء موقع الفكر الفضلاء.
لا شك أن حجم الوثائق الفرنسية المتعلقة بموريتانيا كبيرة، أجهل بطبيعة الحال عددها لعدم إطلاعي على فهرس إحصائي لها، لكن ما لا يغيب عنا أن الفرنسيين ظلوا على اتصال بأرضنا منذ القرن السابع عشر الميلادي حتى الآن، ولا يغيب عنا أيضا أنهم من أكثر الأمم الأوروبية عناية بالتوثيق والأرشفة، وهذا ما يعني أن كم الوثائق الفرنسية المتعلقة ببلادنا كثير.
على سبيل المثال فإن الأرشيف الوطني لما وراء البحار بمدينة أكس آن بروفانس (Archives Nationals d'outre-mer à Aix en Provence ) غزير جدا فيما يتعلق بموريتانيا.
وهذا الأرشيف الموجود بمدينة أكس بجنوب فرنسا فيه الكثير من الوثائق ذات المضامين السياسية والإدارية المتعلقة بموريتانيا في حين يوجد بمدينة "نانت" بغرب فرنسا جزء من أرشيف المستمعرات ومن بينها موريتانيا، بطبيعة الحال، وفيه الكثير من الوثائق ذات الطابع الاقتصادي والتجاري.
وفي باريس عاصمة فرنسا عدة مؤسسات بحوزتها العديد من الأرشيف من بينها مركز الدراسات العليا المعاصرة الخاص بافريقيا وآسيا المعروف اختصارا باسم "شيام" (CHEAM).
هذا فضلا عن المكتبة الوطنية بباريس وموقع وزارة الدفاع والجيوب الفرنسية.
موقع الفكر: من وجهة نظركم مالذي يعيق التوصل إلى كتابة موضوعية للتاريخ تخدم اللحمة الوطنية وتؤسس لاندماج ووحدة وطنية حقيقية لكل مكونات الشعب الموريتاني في هذه البلاد و من أين تكون البداية في هذا المشروع برأيكم؟
سيدي أحمد ولد الأمير: التاريخ جزء من العلوم الانسانية ولا يخفى عليكم الطابع النسبي في البحوث الإنسانية؛ أي أن المؤرخ وعالم الاجتماع وعالم النفس والفيلسوف وغير ذلك يصعب عليه التجرد المطلق فيما يكتب.
لكن يبقى أن أي مجال من مجالات العلوم الإنسانية لا بد للمتخصص فيه أن يكون على معرفة عميقة ومتخصصة في المناهج العلمية الحديثة، وأن يدرسها ويعرف مدارسها واتجهاتها بشكل نظري وتطبيقي، وكلما استلهم الباحث هذه المناهج التاريخية والاجتماعية والانتروبولوجية وتمثلها وتوسع في دراستها واطلع على تطبيقاتها كلما ترسخت لديه الوسائل التي تمكنه من الكتابة العلمية، وفهم الظواهر وعقد المقارنات وإدراك أساليب التفكيك والتركيب وطرق الاستنتاج.
هذا عن البعد الأول من سؤالكم المركب وهو الموضوعية، أما الوحدة الوطنية والاندماج والمساهمة في انشاء مجتمع موحد مع تجانسه ومتناغم مع تنوعه فهذا ليس مسؤولية المؤرخ في اعتقادي بل هو مسؤولية المواطن حيث هو، فكل مواطن من موقعه مطالب شرعا وعادة بترسيخ الأخوة وتعميق الانسجام. وهذا أمر ينبغي أولا أن يبدأ من الأسرة والبيت والشارع، وأن تعززه المدرسة وترسخه الجامعة ويدعو له الخطباء في منابرهم والدعاة في حلقاتهم والمثقفون في ندواتهم وفاعلو المجتمع المدني في منظماتهم.
موقع الفكر: ما العوائق الموضوعية التي تقف أمام الباحث المنصف في تاريخ موريتانيا، وما سبل تجاوزها من وجهة نظركم؟
سيدي أحمد ولد الأمير: العوائق أمام كتابة التاريخ كثيرة وصعبة، ولعل من أبرزها قلة المراجع المحلية المكتوبة، فعزوف أجدادنا- رحمهم الله جميعا- عن كتابة تاريخ هذا البلد، وعنايتهم بالأهم قبل المهم وبالأفيد قبل المفيد وبالأرجح قبل الراجح واقصد هنا اهتمامهم المكثف بالدراسات الشرعية أي الدراسات المتصلة بالقرآن والسنة وما ينجر عن ذلك من علوم على رأسها تصحيح العقائد ومعرفة فرض العين الذي لا يعذر المسلم في جهله، ثم التوسع في هذه العلوم الشرعية وما يعززها وينير الطريق أمام الطالب من معارف كعلوم اللغة والمنطق والبلاغة أو ما يعرف بعلوم الآلة كلها علوم كانت الأهم والأفيد والأرجح عند أوائلنا وأجدادنا، وهم على صواب دون شك فقد أحسنوا الاختيار وقطفوا الثمار وأسسوا لما بات يعرف بالمحظرة الشنقيطية التي عززت مكانة هذه البلاد ومكنت لها بين الاقطار والعباد جزاهم الله خير الجزاء ورحمهم جميعا.
وهذا يعني أن الاهتمام بالتاريخ لم يكن بتلك الأولوية عند ذلك الرعيل، وقد ذكر ذلك مجدد السنة باب بن الشيخ سيديا الأبييري رحمه الله في كتابه عن تاريخ البيضان أو امارتي إدوعيش ومشظوف حين شكا من عدم التصدي لكتابة التاريخ وتدوين الوقائع والأخبار في هذا القطر الشنقيطي.
وعدم التدوين قد ترك الباب مفتوحا للروايات الشفهية التي لا تنكر قيمتها ولا ينبغي اهمالها لكنها وحدها لا تكفي؛ لما يعتريها من تلبس بموقف ورؤية الراوي.
وقد تعرض الكثير من المؤرخين المعاصرين لنقد الرواية الشفهية وبين كيفية التعامل معها وهو موضوع طويل الذيل لا يمكن استقصاؤه هنا.
موقع الفكر: ما الوسيلة الأمثل لحفظ وتثمين ما تمتلك موريتانيا من مخطوطات وكنوز علمية على شفا الاندثار؟
سيدي أحمد ولد الأمير: فيما يتعلق بحفظ و تثمين تراثنا فهو مربط الفرس كما يقال.
ثم يأتي بعد ذلك دور الأفراد والخصوصيين. وتجارب الأمم والشعوب الناجحة في هذا المجال كثيرة ولو عدنا إلى الشبكة لوجدنا فيها من الدراسات وأعمال المؤتمرات وأوراق الندوات حول حفظ التراث وتثمينه ما لا ينحصرعدا ولا يستقصى حدا.
موقع الفكر: حصد تحقيقكم لكتاب حوادث السنين؛ ثناء منقطع النظير إذ يعتبره البعض تأليفا موازيا يذكر بقول نابغة الأغلال
ولايتم نظر الزراقاني الا مع تودي او البنان.
فحبذا لو قدمتم للقارئ صورة عن عملكم في هذا الكتاب؟
سيدي أحمد ولد الأمير: بخصوص سؤالكم عن كتاب حوادث السنين للشيخ الجليل والمؤرخ التاه رحمه الله تعالى، فقد كان لي الشرف بالتمرس ببعض مؤلفات هذه المؤرخ الكبير كبعض أجزاء موسوعته، فقد حققت هذا الجزء الخاص بحوادث السنين كما حققت جزء إدوعيش وجزء وفيات الأعيان وجزء الأغاني والمغنين، وهذه الأجزاء الأربعة منشورة لله الحمد كلها.
وللعلم فقد أخذ مني تحقيق جزء حوادث السنين أزيد من سبع سنوات، فهو مؤلف ضخم وفيه مادة غزيرة بحاجة للتعريف والشرح.
وقد وفقني الله بفضله وكرمه وتيسيره على تذليل تلك الصعاب فله الحمد والشكر اولا وآخرا.
ومن فضله تعالى علي أني وأنا بصدد تحقيق كتاب حوادث السنين اتيحت لي سفرات عديدة ورحلات نحو وجهات كثيرة في افريقيا وأوروبا وامريكا واستطعت من خلال تلك الرحلات جمع الكثير من الوثائق والنصوص التاريخية المتعلقة ببلادنا والتي أعانتني في تحقيق هذا النص.
ومما ينبغي التنبيه إليه أنني هذه الأسابيع بصدد إعداد طبعة جديدة من هذا الكتاب، أي كتاب حوادث السنين بعد حصولي على نسخة مخطوطة أصلية منه وهي بخط المؤلف رحمه الله، وقد امدني بصورة منها الدبلوماسي والسيد الفاضل اسماعيل بن مولود بن داداه، وهي صورة من نسخة محفوظة في مكتبة شقيقه أستاذنا واستاذ أستاذتنا المؤرخ الثقة والباحث الجليل محمد بن مولود بن داداه.
وقد أضافت هذه النسخة الجزيلة كثيرا من المعلومات وصححت عليها كثيرا من الأغلاط التي وقعت في الطبعة الأولى. فللسيد اسماعيل بن مولود بن داداه مني كل التقدير والشكر والامتنان.
وأشير هنا أيضا إلى أن هذه الطبعة التي نرجو ان تصدر قريبا ان شاء الله قد قدم لها وقرظها شيخنا شيخ العصر محمد الحسن بن الددو مد الله في عمره وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
موقع الفكر: في كلمة واحدة ماذا تعني لديكم العبارات التالية: مهرجان مدن التراث_ تثمين وصيانة التراث غير المادي المقاومة الثقافية الاستقلال-التنمية الثقافية القابلية للاستعمار- الصحوة الاسلامية- الديمقراطية_ الدين الابراهيمي.
سيدي أحمد ولد الأمير: اولا يصعب وضع كلمة واحدة أمام كل عبارة من هذه العبارات. مع أني لم أفهم الغرض من هذا السؤال. وعموما:
مهرجان مدن التراث: أصبح مدائن التراث، لم أشارك فيه قط ولم أدع إليه، وما شاهدته منه -على قلته- يفهم منه أنه رغبة في العناية بالمدن القديمة الأربع.
تثمين وصيانة التراث: إذا كانت هذه العبارة برنامجا رسميا عند وزارة الثقافة فلم أطلع على تفاصيله.
التراث غير المادي: ترجمة للعبارة الإنجليزية Intangible cultural heritage وهو مجال طويل وعريض صار معروفا إعلاميا وثقافيا.
المقاومة الثقافية: عبارة يطلقها البعض عن مقابل المقاومة المسلحة وربما يعني عند أصحابه العزوف عن التعامل مع المستعمر كعدم إرسال الأبناء إلى المدارس الفرنسية.
الاستقلال: التحرر النهائي من الاستعمار.
التنمية الثقافية: مفهوم حديث يصعب ضبطه في صيغة لغوية موجزة.
قابلية الاستعمار: مفهوم تحدث عنه لأول مرة المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه الصراع الفكري وهو ترجمة لعبارة La colonisabilité. فليراجع هنالك لمن يريد فهمه واستيعابه.
الصحوة الاسلامية: عودة المسلمين إلى الإسلام بعد بعدهم عنه.
الديمقراطية: شكل من أشكال الحكم.
الدين الابراهيمي: مشروع بدأ الحديث عنه مؤخرا يركز دعاته على المشترك بين الديانات السماوية الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية.
موقع الفكر: ما موقفكم من تعليم اللغات الأجنبية في المراحل الأو لى من التعليم وتدريس المواد العلمية بها في المرحلة الإ عدادية والثانوية؟
سيدي أحمد ولد الأمير: هذا السؤال من الأفضل توجيهه للمسؤولين في وزارة التعليم، أو لخبراء التربية من مفتشين وغيرهم، فهذه الجهات هي التي لها موقف نابع من المسؤولية أو التخصص، وبالتالي هي من يحق لها التحدث في تخصصها ومهنتها.
وطرحه على غير ملم بالابعاد التربوية مثلي غير وارد لان الموقف يصدر عن سلطة إدارية أو معرفية.
قد يكون لي رأي وليس موقفا، وهو رأي شخص بعيد من الموضوع ممارسة وتخصصا وهو أن الطالب ينبغي أن يعلّم أولا بلغته الأم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن اللغات الأجنبية وخصوصا الأوروبية تفرض نفسها ويفرضها السياق الحضاري ولا يمكن إلا أن يكون للطالب حظ عميق منها.
ولا شك أن اللغة الانجليزية بشكل خاص تأخذ مساحة هامة اليوم في المعارف المفيدة كعلوم الكمبيوتر والرياضيات والفيزياء وحتى علوم الإعلام والاقتصاد والسياسية، لذلك لا محيد عن جعلها جزءا اساسيا من نظامنا التربوي.
موقع الفكر:هل من كلمة أخيرة؟
سيدي أحمد ولد الأمير: وفي الختام أشكر موقع الفكر والقائمين عليه على جهودهم المشكورة واستمراريتهم في تزويد القارئ بالمفيد المتميز مقروءا ومشاهدا، فهو جهد يستحق الثناء ومثابرة تستدعي التنويه.