الوزيرالسابق ولد أحمد ديه: كان بالإمكان تحقيق إقلاع اقتصادي لولا الانقلابات والفساد.

في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منه إلى إطلاع المتابعين الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل متوازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد أبرز الاقتصاديين، ممن خبروا دروب الاقتصاد الوطني- وزيرا للمالية- وعايشوا تحدياته في حقبة عانى فيها الاقتصاد الوطني بعض الصعوبات، وبحكم وظيفته فقد كان  ضيفنا يرأس  لجان التفاوض مع مؤسسات التمويل الدولي، حيث أوشكت البلاد في أيامه على انتزاع اتفاق معقول مع المؤسسات الدولية لولا الانقلاب الذي أطاح بولد هيداله و وأد الحلم الذي كان سيكون إنجازا تاريخيا ومصيريا للاقتصاد الوطني.. وبين هذا وذاك كانت خاتمة مشواره المهني مفتشا عاما للدولة.

نلتقي به اليوم لنستجلي من خلاله ما وراء الخبر... في لقاء شامل يتناول بعض القضايا المتعلقة بالاقتصاد الموريتاني في المرحلة التي واكبها، والظروف التي تسلم فيها وزارة المالية، وكواليس التفاوض مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وعن سياسة الممانعة والرفض التي انتهجها الرئيس الأسبق محمد خونه ولد هيدايه اتجاه شروط مؤسسات التمويل الدولي، وكذا سياسة الاقتراض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وعن آثار الحرب على الاقتصاد الموريتاني، وطريقة معالجة الحكومة للديون التي ورثتها عن الأنظمة السابقة، كما يتناول اللقاء الأدوار التي تضطلع بها المفتشية العامة للدولة، وعن ظاهرة الفساد وسبل معالجتها.

 فأهلا وسهلا بضيفنا الكريم معالي الوزير سيد بن أحمد ديه.

ولأهمية اللقاء سنقوم بنشره على جزأين.

 

موقع الفكر: نود منكم أن تحدثونا عن الوضع المالي يوم تس

لمكم لمهامكم وزيرا للمالية؟

الوزير سيدي بن أحمد ديه: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم.

لقد تسلمت مهامي في وزارة المالية في يوليو 1982م.، مباشرة إثر انفصالها عن وزارة الاقتصاد، وتسلمتها بعد سنة من دخولي في الحكومة أمينا عاما لرئاسة الحكومة، وكان وقتها العقيد معاوية بن سيدي أحمد الطائع هو الوزير الأول والمقدم محمد خونه بن هيدالة هو رئيس الدولة.

ولقد استلمت زمام الأمور في وزارة المالية في ظروف صعبة جدا، منها على سبيل المثال:

 أن حجم الميزانية مقارنة بالوضع الحالي كان ضئيلا جدا بالنسبة لحاجيات الإنفاق، فقد كانت الميزانية آنذاك في حدود 37 مليار أوقية في حين أنها وصلت اليوم إلى مايزيد على 500 مليار أوقية تقريبا.

وأتذكر أن الديون المترتبة على الأنظمة السابقة للرئيس محمد خونه بن هيداله كانت في حدود 30 مليار أوقية تقريبا، وكانت ناتجة عن إنجاز بعض المشاريع كطريق الأمل، وشركة "صونادير"، "مصفاة البترول"، و"مصنع السكر.. إلخ.

 أي ما يقارب 666.677.000 دولارا أمريكية (الأرقام تقريبية).

وأتذكر أنه إبان وصول الجيش للسلطة وتحديدا 1979م. كان البلد يعيش تحت حصار قوي من الدول الخليجية المانحة؛ والتي كانت أبرز مصدر للتمويلات إما عبر دعمها المباشر، أو عبر الصناديق التابعة لها، كصندوق النقد العربي وصندوق الإنماء الاقتصادي والاجتماعي والبنك الإسلامي الذي يتبع للسعودية التي تعتبر الشريك الرئيسي فيه

وكذلك الصندوق الكويتي والصندوق السعودي، وكانت هذه الصناديق أهم مصادر التمويل في تلك الفترة.

وينضاف إلى هذه الوضعية الاقتصادية، أزمة سياسية عميقة، بفعل المحاولة الانقلابية المعروفة "بكوماندوس 16 مارس" 1981، وكذلك نشاط المعارضة الخارجية التي قادتها حركة التحالف الموريتاني من أجل الديمقراطية "AMD " التي ضمت شخصيات مهمة منها من سبق لهم العمل كوزراء سابقين، وسفراء في بعض بلدان الخليج.

وزيادة على هذا كانت حساسية دول الخليج تجاه الانقلابات العسكرية، قوية جدا، خصوصا أن هذه الأنظمة هي أنظمة ملكية وأميرية، وترى في أي انقلاب في العالم العربي والإسلامي رسالة غير ودية تجاه نمط الحكم لديها.

وعلى الضفة الدولية الأخرى، كانت علاقات بلادنا بصندوق النقد الدولي متوترة جدا، خصوصا أن مديره الفرنسي "دلاروزيير" كان سابقا مديرا للخزينة الفرنسية، وكان من بين أهم المسؤولين الفرنسيين الذين فاوضوا موريتانيا إبان خروجها من منظمة "الفرنك الفرنسي"، وهو الخروج الذي لم يرق لفرنسا في تلك الفترة، خصوصا أن موريتانيا كانت من الدول التي تغذي تلك المنطقة من وارداتها المتمثلة في الحديد والنحاس.

وكانت هناك سيطرة للفرنسيين أيضا على القروض ففي تلك الفترة لم يكن هناك من البنوك سوى بنك أو اثنين، منهما على سبيل المثال بنك "BIAO"الذي تغير بعد ذلك ليصبح اسمه "BIMA" كانت هي التي تعطي القروض ويديرها فرنسيون.

  ومن غير المستبعد عندي أن دخول موريتانيا في حرب الصحراء كانت خطة فرنسية لإنهاك موريتانيا حتى ترجع مذعنة إلى "منطقة الفرنك". فقد ظهر أن موريتانيا لا يمكن أن تستمر أو تواصل الحرب دون دعم من فرنسا.

 بدأت موريتانيا مراجعة الاتفاقيات مع فرنسا في 1973 -1974 .. بينما نشبت الحرب  نهاية العام 1975، وكانت فرنسا تتوخى أن تصل الحرب  إلى ظروف تكون فيها موريتانيا هي التي تطلب الرجوع "لمنطقة الفرنك الفرنسي".

وقد كادت الخطة أن تنجح، خصوصا بعد توقف قطار الحديد، الذي كان المصدر الوحيد للعملة الصعبة، وذلك في ظل أحادية اقتصادية، خصوصا أن قطاع الاقتصاد البحري كان يومها ضعيف الأداء، وأول وزارة خاصة به يتم إنشاؤها سنة 1976، حيث كان أول وزير للصيد هو الدكتور عبد الله ولد إسماعيل، وهو ما يدفع إلى التساؤل لماذا لم تول فرنسا طيلة احتلالها لموريتانيا أهمية لهذا المصدر الاقتصادي الثري، رغم أنها نهبت مختلف خيرات البلاد!.

لقد كانت هذه هي الظروف العامة التي استلمت فيها وزارة المالية، وهي ظروف تفرض – كما هو واضح – الاعتماد الكامل على المداخيل الذاتية للبلد.

وكما هو معلوم فإن للميزانية أربعة مصادر:

- المصدر الأول : هو القروض، وبالإضافة لندرتها كان  توجيهها للتسيير تصرفا غير اقتصادي، إذ أنه من المفروض أن تكون لهذه القروض- زيادة على إنجاز المشاريع- قيمة إضافية  يستفيد منها البلد؛ ويمكن من خلالها  تسديد القرض مستقبلا.

- المصدر الثاني :  المجال العمومي مثل  الثروة المعدنية والسمكية وبيع الأراضي، هذه الثروة ملك لكل الأجيال، وعليه فليس من الإنصاف والعدل أن يستحوذ عليها جيل واحد كما حصل مع الثروة الحديدية في "كدية الجل" التي انتقلت من  أرفع جبل في موريتانيا إلى  حفرة واطئة.

 - المصدر الثالث: هو الهبات و مع أنها ليست مصدرا مضمونا فاستخدامها في التسيير الإداري والحكومي يجعل استقلال البلد في خطر؛ لأن دولة تعطي رواتب عمال دولة أخرى أو تسيَّر من مواردها لا يمكن أن تكون مستقلة عنها، بل يمكن أن توجه سياساتها وتتحكم في قراراتها.

وعليه فالمصدر الوحيد الذي يؤمن استقلالية البلد ويضمن حسن تسيير إدارته هو: المصدر الرابع: الضرائب والرسوم: وهذه الضرائب يجب أن تكون عادلة في توزيعها، فتوزع على المؤسسات والأفراد حسب استفادتهم من المنتوج الوطني، وذلك عبر النشاطات الاقتصادية المتاحة لهم من طرف الدولة، وإذا أمكن توجيه نسبة من عائدات الضرائب لإنشاء مشاريع أو منجزات على مستوى البنية التحتية، فهو تصرف اقتصادي جيد.

 فلا ينبغي إذا أن تكون الموارد الأخرى مصدر دفع الرواتب أو تسيير يوميات الإدارة إلخ...

إذا هذه الظروف الصعبة هي التي وجدت فيها الوزارة ، مع ظروف أخرى تسييرية وإدارية لافتة؛ حيث أنني وجدت جميع المراسلات والتقارير يقوم بها مستشارون فرنسيون بموجب مشروع  مشترك بين فرنسا و الوزارة، وكانت هذه المراسلات والتقارير تكتب في السفارة الفرنسية

 فكان أول ما بدأت به هو قولي لهم إنه حتى ولو كانوا سيكتبونها بأيديهم فيجب أن تكتب في مقر الوزارة؛  لأن جميع التقارير والرسائل الصادرة عن الوزارة وكل ما ستكتبه يجب أن يكتب داخلها.

 ليبقى ما هو سري منها بيد السلطة المعنية بها، وهي أيضا من سيعلن ما هو علني منها أو موجه للجمهور.

وهذا الإجراء ما هو إلا جزء من إجراءات متعددة- يطول ذكرها في مثل هذه المقابلة - قمت بها لإصلاح وتقويم عمل الوزارة.

ومن العقبات التي واجهنا يومها أزمة التعامل مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فلم يكونا يريدان القيام بأي برنامج تنموي مع موريتانيا أو خطة تقويم إلا بشرط تخفيض قيمة العملة الوطنية.

هذا في وقت كانت المصادر الأخرى، مثل دول الخليج، متحفظة جدا تجاه الدعم الاقتصادي لبلادنا، بل يمكن القول إنهم "قبضوا أيديهم" عن المنح لبلادنا، وذلك للأسباب التي شرحت سابقا، ومنها حساسية الملكيات تجاه الأنظمة العسكرية.

 

موقع الفكر: لماذا في تلك الفترة لم تكن موريتانيا تقبل بشروط البنك وصندوق النقد الدوليين؟

الوزير سيدي بن أحمد ديه: في سنة 1984م التقيت رئيس صندوق النقد الدولي الفرنسي "دلاروزيير"، في واشنطن، وذلك ضمن الاجتماع السنوي الذي ينظمه الصندوق

وذلك بعد عام من رئاسة موريتانيا لأول مرة الاجتماع الدوري للصناديق والمؤسسات الاقتصادية العربية التابعة للجامعة العربية، التي كان مقرها في تونس آنذاك.

كان ذلك الاجتماع في تونس وترأسته باعتباري رئيس الوفد الموريتاني، وهو ما سهل علي لقاء بعض المسؤولين وخاصة وزير المالية والاقتصاد السعودي محمد أبا الخيل، الذي كان رجلا فاضلا ذا خبرة وعلاقات دولية واسعة، فهو وزير للمالية والاقتصاد منذ ،1969م .

وفي هذا اللقاء طلبت منه المساعدة لأنني في ذلك الوقت كنت على علم بأنني سأقود الوفد الذي سيتفاوض مع صندوق النقد الدولي في واشنطن.

وقد كان وجود صديقي السفير في تونس وممثل موريتانيا في الجامعة العربية محمد الأمين ولد يحي عونا لي في مختلف الاتصالات، فقد كان يحظى بعلاقات وتقدير مع مختلف الدوائر العربية.

وعند ما التقيت بالوزير السعودي، اخترت أن أقدم له صورة وسلوكا مخالفا لما يشاع عن بعض المسؤولين الذين يتقدمون بطلبات ظرفية، من قبيل مساعدة مالية أو فنية أو أي شيء من هذا النوع، بل ذكّرته بكونه أكبر الوزراء العرب في ذلك الاجتماع سنا وأنا أصغرهم، وعلى هذا الأساس أرجو الاستفادة من خبرته، والنصائح التي يمكن أن يوجهها لي، حتى نستطيع إدارة مفاوضات ناجحة مع المؤسسات النقدية الدولية.

وذكرت له أن المملكة العربية السعودية ساعدتنا في الخروج من منطقة الفرنك الفرنسي عام 1973، وأنني أطلب منه مساندته في الصمود أمام الضغوط، وذكرت له أن رئيس صندوق النقد الدولي فرنسي الجنسية، ومن القطاع المالي الفرنسي الذي فاوض موريتانيا إبان خروجها من منطقة الفرنك الفرنسي، وأننا نواجه ضغوطا كبيرة هدفها إرجاعنا إلى منطقة لفرنك، ونريد منهم مساعدتنا.

وردا على  مطالبي تعهد لي الوزير  بالمساعدة إثر نقاش مستفيض ونصائح مهمة أسداها إلي.

كان هذا الاجتماع في بداية العام 1983، وقد وفى لي بوعده مشكورا، وحينما ذهبت إلى واشنطن 1984م.  اتصل بي ممثل السعودية هناك وقال إن أبا الخيل أعطاه التعليمات بلقائي ومساندتي في تلك المفاوضات.

لقد اتصل بي ممثل السعودية، عبر سفيرنا في واشنطن المرحوم عبد الله ولد داداه، الذي استضافني في بيته، مع عقيلته الكريمة الأستاذة تركية داداه، التي كانت  مديرة للمدرسة الوطنية للإدارة أيام تكويني فيها سنتي 1979-1980.

وكان للمرحوم عبد الله دور مهم في هذه المفاوضات، إضافة إلى وفدنا الذي ضم محافظ البنك المركزي السيد جينك بوبو فاربا، وأطر مهمة من قطاعي الاقتصاد والمالية، وقد صار أغلبهم بعد ذلك وزراء في الحكومات المتعاقبة،  اللذين  كان لهم دور رائد في هذه المفاوضات.

ولقد طلب مني المسؤول السعودي أن أشرح له مسار علاقاتنا بهذه المؤسسات وماذا نريد منها وبعد شرحي له، أسهم بفعالية في دعم مفاوضاتنا مع هذه المؤسسات.

وهنا سأعود لأؤكد لك ما ذكرته قبل قليل وهو أن فرنسا كان لديها هدف واضح، وهو أن نعود لمنطقة الفرنك؛ لأنها كانت تريد أن تبقي دول غرب إفريقيا في منطقة الفرنك الفرنسي، وموريتانيا كانت أكثر فائدة على المنطقة، نتيجة لعائدات موارد ها من الحديد والنحاس والسمك.

 ومن السهل عليها كذلك الحصول على القروض في تلك الفترة وهي فترة الحكم المدني، بل إن هناك الكثير من التمويلات التي وجهت لإفريقيا كان لموريتانيا دور كبير فيها، خاصة القروض التي حصلت عليها منظمة استثمار نهر السنغال.

كما أن المرحوم المختار بن داداه في تلك الفترة قام بجولة في الدول العربية لحشد الدعم لهذه المنظمة، ولذلك كانت مساهمة هذه الدول والصناديق التابعة لها مساهمة كبيرة.

وفرنسا كانت تريد موريتانيا في منطقة الفرنك الفرنسي أما موريتانيا، فقد كانت تنظر إلى قضية العملة الوطنية باعتبارها قضية سيادية، وليست مؤشرا أو بندا اقتصاديا بالنسبة لها.

وقد كان تأسيس عملة وطنية فرصة لأن تكون مصادرنا كلها وما سنحصل عليه من العملة الصعبة في حسابات نتصرف فيها كما نشاء وطبقا لمصلحتنا الاقتصادية.

ثانيا: كما أن تأسيس العملة الوطنية، دفع أيضا إلى تأسيس بنوك وطنية وأصبح القرض تحت يد موريتانيا تتصرف فيه كما تشاء، ووجهت موريتانيا تمويلاتها حسب أولوياتها، فالأولويات عند موريتانيا ليست هي الأولويات عند فرنسا وصندوق النقد الدولي.

وهكذا  كان تعاطي موريتانيا في تلك الفترة محكوما بعنصرين: سيادي وطني، والآخر اقتصادي تنموي، وقد كان بالإمكان أن نحقق إقلاعا اقتصاديا نوعيا، مع الطفرة الاقتصادية التي أعقبت إنشاء العملة الوطنية، حيث نشأت طبقة وسطى وأخرى برجوازية، وتوسعت دائرة الأنشطة الاقتصادية الخصوصية، قبل أن تأتي الحرب ومن ثم الانقلابات العسكرية والفساد وسوء التسيير، لتربك أو تعرقل أو حتى تنحرف بقاطرة التنمية إلى سكة لم تحقق نماء اقتصاديا ولا تسييرا إيجابيا.

 

موقع الفكر: هل لا زلتم تعتقدون أن القرض من البنك وصندوق النقد الدوليين يشكل خطرا على التنمية من جهة وعلى التوازن المالي من جهة أخرى؟

الوزير سيدي بن أحمد ديه: أولا يجب أن نعرف أن صندوق النقد والبنك الدوليين مؤسستان غربيتان ودورهما جعل اقتصاديات دول العالم الثالث في خدمة الاقتصاد الغربي واندماجها في اقتصاداته ...لا أن تكون المؤسستان في خدمة دول العالم الثالث.

ثانيا: ليس دورهما منح قروض أساسية، فهم يقدمون فقط تأشيرة ثقة تمنح للدولة دليلا على توافقهم معها وأن خطتها الاقتصادية ذات مصداقية، ويمكن أن يعتمد عليها كل من أراد الاستثمار في البلد.

ولكن هذا في الواقع -ومع التجربة - يظهر أنه  سياسي أكثر مما هو اقتصادي أو مالي بحت.

 بحيث أن تعاملهم مع دولة تابعة لهم يختلف عن تعاملهم مع دولة أخرى لا تقبل التدخل في شؤونها، ولو كان وضعها الاقتصادي، والتسييري أفضل وتصنيفها في معايير الشفافية أحسن، فإنهم سيغضون الطرف عن البلد التابع لهم مرحليا، ولكن إذا تغير ذلك الاتفاق فستراهم يكشفون عيوبه التي كانت موجودة، والتي كانوا يتغاضون عنها، بموجب اتفاقهم معها سياسيا.

أيضا ما يسمى بالفساد غير خاص بالدول ولا بدول العالم الثالث فقط؛ فهذه المؤسسات النقدية الكبيرة فيها أنواع منوعة من الفساد: الرشوة والمحسوبية.... والموظفون يكونون من دولة واحدة أو اتجاه واحد، ونظرتهم وتفتيشهم وحضورهم ومناقشاتهم مع الدول، تحكمها انتماءاتهم الفكرية والسياسية، وحسب التوصيات التي ستصدر لهم من قادة هذه المؤسسات التي يتبعون لها.

في لقائي برئيس صندوق النقد الدولي قلت له بصفة صريحة وبحضور معاونيه، وأفراد وفدنا إننا مستعدون للنقاش. عندها بدأ بالقول إن وضع موريتانيا بلغ درجة كبيرة من الخطورة، ومن التدني لدرجة لا تسمح للصندوق بغير تشجيع الدول المانحة على تقديم هبات غير معوضه، لكن لا يمكن أن نشجع المستثمرين بالتوجه إلى موريتانيا.

وبأنه من أجل مناقشة برنامج تقويمي محكم يجب أن تبدي موريتانيا حسن نيتها بالاستجابة لشرط هو الأول الذي سنبدأ به، وهو تخفيض سعر صرف العملة، الذي بالنسبة له لا يعكس بصدق الوضع الحقيقي لاقتصاد البلد.

عندها شرحت أن الوضع الذي تحدث عنه ورثناه من الأنظمة السابقة، والنظام الحالي تحمل تبعات من سبقه، ومن هذه الأوضاع الصعبة تحمله الديون الموروثة، وبحثه عن طريقة لتسديدها، رغم أن ذلك لا يمكن بدون وضعية اقتصادية أقوى وأحسن مما نحن عليه، وهو ما نطلب مساعدتهم من أجله.

وذكرته من بين أمور أخرى بأن استفادة الاقتصاد الغربي من هذه الديون كانت أكثر مما استفدناه نحن، وكأمثلة على ذلك  ذكرته بظروف بناء مصنع تكرير البترول سنة  1973م حيث أن هناك وزيرا موريتانيا جاء إلى بلجيكا عرضوا عليه فكرة بناء مصنع لتكرير "البترول بتكلفة تصل إلى 7 ملايين دولار مع مدة إعفاء تصل إلى 10 سنوات وبالنسبة للوزير الموريتاني لأن عمره الوظيفي لا يتعدى سنتين أو ثلاث رضي بالمصنع، واعتبره فتحا وإنجازا غير مسبوق.

وقتها كانت علاقاتنا مع الجزائر  قوية جدا فصمم المصنع لتكرير "البترول" الجزائري، وبعد تشغيله بسنة أو اثنتين اختلفنا مع الجزائر وتعطل المصنع لعدم تزويده بالخام الجزائري، وبعد مرور 10 سنوات على اغلاقه انقضت فترة الإعفاء، ووجدنا أنفسنا ملزمين بتسديد 400 مليون أوقية كدفعة أولى من القرض، بينما المصنع  مغلق، وعماله يتقاضون رواتبهم من الخزانة العامة.

إنها جملة من الحقائق المؤلمة التي تؤزم العلاقة بينا وبين المؤسسات النقدية الدولية:

 - فالمصنع مستورد من الغرب.

- والدراسات قام بها غربيون.

- والمستشارون الفنيون كانوا من الغرب.

إذا، الغرب استفاد من هذا وتتراكم الديون على كاهل موريتانيا وعلى حساب تنميتها.

ثم إن مصدر هذه القروض غالبا هو صناديق دول البيترودولار،  والغرب في النهاية مستفيد دائما من المقرض والمدين دون أن يدفع شيئا.

وهذا مثل مصنع السكر الذي أسس قبل ذلك، ومثل ذلك تمويلات متعددة "لصونادير" استفاد منهم الغرب الذي كان يعد الدراسات، ويرسل الخبراء، ويتابع الملفات، بينما تدفع بلادنا لكل هؤلاء من ثروتها، وتسدد لهم الديون التي منحوها بشروطهم المجحفة دائما.

وقد كان مما قلت لمدير صندوق النقد الدولي: أنه ونتيجة لكل هذا نحن مستعدون للتصدي لمخلفات السياسات السابقة، لكننا مصممون على بناء اقتصادنا بصفة مستقلة وموضوعية.

وإذا وجدنا أن موريتانيا من أجل توازن اقتصادها تحتاج تخفيض العملة فليست هناك مشكلة في ذلك، ففرنسا تخفض عملتها وكذلك ألمانيا وأمريكا، ولكن بعد أن تقتنع بأن مصلحتها في ذلك.

والخطة التقويمية التي نحن بصددها الآن، والتي نريد منكم العون عليها، نريدها مبنية على اقتصاد متوازن ومستقل ومنفتح.

ونظرا لما سبق ولرمزية العملة، وشحنتها المعنوية فإننا نرجو أن لا يكون المساس بها شرطا لنقاش هذه الخطة، دعونا نجعلها عنصرا عاديا من عناصر بناء هذه التوازنات.

وإذا أمكن القيام بهذه التوازنات دون المساس بقيمتها الحالية، فذلك ما نفضله.

وبعد نقاشات لمدة ثلاث أو أربعة أيام توصلنا إلى إطار للتفاوض، وقبِل الصندوق أن تكون قضية العملة هي النقطة الأخيرة، وحصلت تغييرات في الطواقم التي كانت تكلف بالإشراف على مفاوضاتنا.

وبعد بضعة أشهر من عودتنا، زارنا وفدا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. و بينما نحن وإياهم عاكفون على صياغة اتفاق توصلنا إليه  بعد مفاوضات شاقة، اتفاق بموجبه كانت بلادنا ولأول مرة في تاريخها ستنتزع من هاتين المؤسستين تنازلات قيمة ،في هذا الوقت بالذات حصل الانقلاب على الرئيس محمد خونه ولد هيداله.

 فرجع الوفدان فورا إلى واشنطن، وعادا إلى شروطهما القديمة وأثقل.

 وهكذا تبدد الحلم و بقيت بلادنا في مخالب هاتين المؤسستين العدوتين لآمال الشعوب، وذلك حتى الآن.

 أذكر أن سعر الفرنك الفرنسي كان حينها يساوي  17 أوقية و الدولار 45أوقية، و 1000 أوقية تساوي خمسة عشر ألف فرك أفريقي وقس على ذلك أسعار السلع والخدمات الضرورية.

وإذا كان هذا الانقلاب، انقلابا سياسيا على ولد هيداله، الذي يمكن أن تكون له مبرراته السياسية مع اختلافنا في ذلك فإني اعتبره انقلابا اقتصاديا على الدولة الموريتانية.

موقع الفكر: من وجهة نظركم هل خسرت موريتانيا أم ربحت من تعاملها مع المؤسستين؟

الوزير السابق سيدي بن أحمد ديه: الخسارة والربح في مجال التعاون مع هيئات التمويل الدولية، هي قضية مفاوضات، وميزان قوى وأريد أن أقول أولا إن هذه المؤسسات أنشئت في وسط القرن الماضي، ومن أهدافها التعامل مع دول العالم الثالث، والمحافظة على توازنات عامة في اقتصادياتها وتعاملها مع الاقتصاد الغرب.

وأساس تعاملها مع دول العالم الثالث هو المحافظة على فضاء لأخذ المواد الأولية منها، وكسوق لبيع البضائع التي يصنعونها.

فالتعامل معهم بمنطق الربح والخسارة يتوقف على سياسات الدولة التي ستتعامل معهم، ومدى جديتها في بناء اقتصادها، وتعاملها الموضوعي مع هذه الهيئات.

وفيما يخص موريتانيا أعتبر أنها من أواخر السبعينيات، وهي تجري مفاوضات مع هذه الهيئات، وهذه المفاوضات لم تصل مطلقا إلى التوازن، حيث تأتي بعثة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهم من يجرون تقويما لمدة أسبوع أو اثنين وغالبا لا يحصلون على الوضع الحقيقي، ودائما يخلصون إلى أن الوضع إذا لم يكن كارثيا فهو غير متوازن، ثم يصدرون في النهاية بعض الإملاءات، وهذه الإملاءات غالبا لا تكون في صالح البلد مثل الخصخصة، والتوصية بمنع اكتتاب العمال، ونقص المصروفات العامة، وهذا فعلا في غير صالح موريتانيا.

القضية أنه أولا: يجب أن يجتمع الموريتانيون ويتفقوا على خطة تقويمية، وينظرون بعد ذلك ما إذا كانت هذه المؤسسات الدولية يمكن أن تكون عونا لهم في إنجاح هذه الخطة.

إما إذا ما دامت القضية هي أن المؤسسة النقدية الدولية تأتي عبر فترات محددة وبتعليمات، وحتى أنها في زياراتها قد تمثل إزعاجا لدوائر اتخاذ القرار.

ويكون التعاطي معهم انطلاقا من عقلية التحايل وتجميل وضع المعطيات الاقتصادية، من خلال تقديم أرقام مضخمة، وإخفاء الحقائق والاختلالات الماثلة حتى يغادر الوفد الدولي.

إنني أرى بوضوح أن هذا النوع من التعاون لم يكن في صالحنا ولن يكون أبدا، لكننا أيضا مرغمون على الرضوخ لهم، ما لم نملك إرادة سياسية قوية، وساعية إلى الإصلاح، وما دامت الإرادة السياسية ضعيفة وخجولة، والشعب الموريتاني وخبراؤه الاقتصاديون، خارج دائرة التخطيط والتأثير الاقتصادي، فلا أمل يرجى من التعاون مع هذه المؤسسات...

إن موريتانيا غنية، بمصادرها الطبيعية: الحديد، والنحاس، والذهب، والنهر، والثروة الحيوانية، وعدد سكانها قليل، فأزمتها إذا ليست  في نقص الموارد ولا الكفاءات

وهذه المؤسسات  الدولية ليست هي من سيقوم بحل مشاكلنا، وحسب التجربة هم سبب الأزمات وعدم الاستقرار في الكثير من الدول نظرا لتدخلاتهم وقساوة شروطهم، التي تؤول غالبا إلى ظروف اقتصادية صعبة جدا، ومن ثم إلى نقمة شعبية تنتج ثورات وعنفا مؤلما.