قال المفكر السياسي أحمد ولد هارون آل الشيخ سيديا إن من أكبر الأخطاء المتراكمة التي تواجه النظام السياسي الموريتاني، جمود السلطات المتعاقبة ذهنيا وسياسيا، وخوفها من تقاسم السلطة مع المجتمع وجعله شريكا في العملية السياسية، بل واستهدافها لأي قوة يفرزها المجتمع من تلقاء نفسه.
وأوضح ولد هارون أن الوقت قد حان لأن نلتفت لأنفسنا وننقذ هذا البلد المهدد بكل أنواع التهديد على حد تعبيره.
واعرب ولد الشيخ سيديا عن نيته الترشح للرئاسيات القادمة بسبب الفراغ الملاحظ شريطة توفر الحد الأدنى من ضمانات الشفافية والمصداقية، مؤكدا في ذات الوقت أن المعارضة، ورغم تحقيقها لبعض المكاسب إلا أنها ضيعت فرصا كثيرة وهي اليوم تحتاج لرؤية سياسة ومستقبلية..
وتناول في هذه المقابلة الخاصة مع الموقع موضوعات عديدة كالتعليم والموقف من الانقلابات العسكرية ووضعية المعارضة، فإلى نص المقابلة:
موقع الفكر: تنوون أو تسعى بعض الجهات إلى ترشيحكم للرئاسة، ما جدية هذا المسعى وما هي آفاقه؟
أحمدولد هارون آل الشيخ سيديا: دُعيتُ مرارا للترشح واقترحته علي مجموعات عديدة من الشباب وشخصيات جادة، خصوصا في الأشهر الأخيرة. ونظرا للفراغ الملاحظ قبلت المبدأ، شريطة أن يتوفر في الانتخابات مستوى أدنى من الشفافية والمصداقية.
موقع الفكر: تنتقدون نظام ولد الشيخ الغزواني بشكل مستمر. فما هي أبرز المآخذ الخاصة بهذا النظام؟
أحمدولد هارون آل الشيخ سيديا: أبرز المآخذ على هذا النظام الخاصة به، هي عزوفه عن العمل المنظم واتخاذ القرارات المناسبة. وقد قلت سابقا إنه ظل - على مدى هذه السنوات الأربع - عالة على سلفه في كل شيء. كذلك من مآخذه البارزة تضييعه للفرص التاريخية، وعدم رغبته في إحداث التغيير ومحاربة الفساد، إلخ. حتى الآن لم يحاول هذا النظام تقييم أدائه وتقييم الحالة العامة للبلد ومصارحة الشعب بالحقيقة والاعتراف له بالواقع.
موقع الفكر: ماالعيوب أو الأخطاء المتراكمة في بنية النظام السياسي منذ الاستقلال؟
أحمدولد هارون آل الشيخ سيديا: من أكبر تلك الأخطاء، الجمود السلطات الذهني والسياسي، والاعتقاد بأن حكم البلاد ينبغي أن يظل بالطريقة نفسها. وكذلك خوف هذه الأنظمة من تقاسم السلطة مع المجتمع وجعله شريكا حقيقيا في العملية السياسية. بل إن الخطأ الأكبر الذي ارتكبته عامة الأحكام المتعاقبة - عن وعي وعن غير وعي - هو تصديها وتدميرها لكل فرد أو قوة يفرزها المجتمع من تلقاء نفسه دون مساعدة السلطة أو بمرسوم رسمي منها. ذلك أن المجتمع هو الذي باستطاعته أن يمد يد العون للدولة وقت ضعفها. وها هي الدولة الموريتانية تضعف اليوم أمام أعيننا ولا تجد من المجتمع مددا. لماذا؟ لأن المجتمع ضعف، والدولة - ممثلة في الأحكام المتعاقبة - هي التي أضعفته: علميا واقتصاديا وبدنيا ونفسيا، إلخ..
موقع الفكر: كيف تقيمون أربع سنوات من حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني؟
أحمدولد هارون آل الشيخ سيديا: عانت في المجمل من الميوعة والجمود والفساد.. وإذا كانت هناك بعض الإيجابيات فإن الميزات المذكورة طمستها.
موقع الفكر: فهم البعض من مقالكم الأخير المعنون بأكواخ البرلمان وخلاخيل الجيش أنه دعوة مبطنة لانقلاب عسكري.
أحمدولد هارون آل الشيخ سيديا: عبّرت في خرجات سابقة عن موقفي من الانقلابات العسكرية وقلت إنها سيئة تعيدنا إلى الوراء، مع أن هناك ما هو أسوأ من الانقلابات، وهو الانهيار والفوضى المطلقة.
أما ما كتبته في مقالي المعنون بأكواخ البرلمان وخلاخيل الجيش، فإنه لم يكن سوى استنكار للفيديو المتسرب من داخل المدرسة العسكرية بأطار، وتذكير بقيمة المؤسسة العسكرية ومدارسها الخاصة بها، ومدى التعويل عليها تاريخيا وقت الأزمات والهزات الوجودية. وإذا كان البعض قد أول المقال ذلك التأويل، أو فهمه فهما محدودا، فإن ذلك لا يغير حقيقة ما في المقال ولا حقيقة موقفي المبدئي من الاحتكام إلى القوة.
موقع الفكر: يرى البعض أنكم تراهنون على إرث أحمد ولد داداه لتكونوا الزعيم المعارض الممثل للقيم والانتماءات التي يمثلها ولد داداه.
أحمدولد هارون آل الشيخ سيديا: قلت لكم آنفا إن من أبرز مآخذنا على النظام الحالي كونه عالة على النظام السابق. وقلت لكم قبل ذلك إن من أكبر أخطاء السلطات المتعاقبة هو جمودها الذهني والسياسي والظن أن بإمكانها حكم البلاد بالطريقة التي كانت تحكم بها من قبل. كذلك المعارضة الحالية والمستقبلية، سيكون من الخطإ الفادح أن تكونا عالة على المعارضة السابقة: في التفكير والتخطيط والخطاب والأشخاص. ومع ذلك سيكون من المهم - بالمقابل - الاستفادة من الأخطاء والتجارب والقنوات والطاقات البشرية السابقة.
موقع الفكر: كيف تنظرون إلى وضعية المعارضة اليوم؟
أحمدولد هارون آل الشيخ سيديا:المعارضة حققت فيما سبق نجاحات كبيرة، وضيعت أيضا فرصا عظيمة. واليوم تحتاج المعارضة إلى رؤية سياسية ومستقبلية وتنظيم ووسائل أكثر حداثة، وإلى قيادة، كما تحتاج إلى بذل مجهود أكبر، وابتكار طرق غير تقليدية للتمويل الذاتي المستمر. كذلك تحتاج المعارضة اليوم إلى إصلاح اسمها، أو استعادة مصداقيتها في الذهن الجمعي الموريتاني. والأهم من ذلك كله هو - في رأيي - أن تدرك المعارضة والرأي العام المعارض مدى قوة الفكرة، وأن معارضين في العالم وساسة كُثرا حققوا بالفكرة انتصارات كبيرة ومكاسب سياسية وطنية، ووصلوا عن طريقها إلى السلطة.
موقع الفكر: كيف تقومون واقع التعليم اليوم؟
أحمدولد هارون آل الشيخ سيديا: واقع التعليم في موريتانيا مأساوي، وقد تعامل معه النظام الحالي وحكوماته بكثير من الارتجالية وعدم المسؤولية.
إن التعليم - كما تعلمون - من المهام السيادية للدولة. وفي بلد مثل موريتانيا، هناك أربعة أهداف كبرى للتعليم:
1- تكوين المواطن عن طريق كسب المعارف.
2- تطوير مَلَكة النقد والاستقلال الذهني لدى المواطن، ليكون مؤهلا لاتخاذ القرار.
3- أن يكون مهيئا للعمل والاعتماد على النفس والاستقلال الاقتصادي.
4- أن يكون بوتقة لبناء الوطن وتعزيز وحدته.
أما المدرسة العمومية (أو الجمهورية) فينبغي أن تشكل سُلَّما اجتماعيا يرتقي فيه الجميع بالاستحقاق وحده والمؤهلات الذاتية والإنجاز. ومن أجل تحقيق تلك الأهداف واستعادة المدرسة الجمهورية، على الدولة القيام بما يلي:
1- أن تستثمر بوفرة في المصادر البشرية والتأطير؛
2- أن تطلق برنامجا عقاريا موسعا لتكون هناك -على الأقل - مدرسة ابتدائية بالمعايير المطلوبة في كل بلدية، وإعدادية في كل مركز إداري، وثانوية في كل مقاطعة، وجامعة أومؤسسة للتعليم العالي في كل ولاية؛
3- أن نجد مصادر للتمويل الموجه لوضع مقررات دراسية منقحة بعناية فائقة، ومتماشية مع واقعنا الاجتماعي والثقافي وأهدافنا التنموية والاقتصادية؛
4- أن نتَبنى سياسة وخيارات لغوية واضحة، من شأنها تسهيل التواصل بين الموريتانيين أنفسهم والتواصل بينهم وبين شعوب المنطقة. مع الانفتاح على العالم عن طريق لغة أجنبية ثانية.
5- احترام الهوية المشتركة بين الموريتانيين، وتشجيع اللغات الوطنية، تطويرا وتعليما: البولارية، والسونونكية، والولفية؛
6- أما التعليم الخصوصي فيمكن اللجوء إليه وتشجيعه، لكن مع التأطير الصارم عن طريق دفتر التزامات، والتفتيش وغير ذلك. على أن تبقى المدرسة العمومية هي المرجع؛
موقع الفكر: هل من كلمة أخيرة؟
أحمدولد هارون آل الشيخ سيديا: لقد آن الأوان لأن نتطور ونتجاوز مرحلة السذاجة السياسية.
وقد قسَّم الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه في كتابه المشهور "هكذا تكلم زرادشت" مراحل تطور الإنسان إلى ثلاث:
أولها مرحلة الجَمَل التي يكون الإنسان فيها خاضعا لما يُفرض عليه، ويقبل بسذاجة ما يقال له، دون أن يستخدم عقله أو إرادته في اختيار مصيره.
ثم مرحلة الأسد، وهي التي يستيقظ فيها الإنسان من سباته، ويشعر بأنه لا يستطيع أن يتحمل أكثر من ذلك، فيبدأ في التمرد على كل ما كان خاضعا له، ويقول "لا" بصوت عال.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فهي مرحلة الطفل التي يعبر الإنسان فيها عن حالة من البراءة والفرح والتجديد. وهي المرحلة التي يصل فيها الإنسان إلى درجة من الحرية والإبداع، بعد أن يتخلص من كل ما كان يكبِّله. حينئذ يصبح الإنسان قادرا على إنشاء قيم جديدة ومعان جديدة، بدلا من اتباع ما سبق، قادرا على التعبير عن ذاته بصدق وصفاء، دون خوف أو قيود.
لقد آن الأوان لأن نلتفت إلى أنفسنا وننقذ بلدنا المهدد بجميع أنواع التهديد، وأن ندرك أن هذه الدولة التي يرتبط بها مصيرنا جميعا تنهار، وأننا نحن السبب. كما ينبغي أن نعلم أن موريتانيا صار لديها من الوسائل والمقدرات المالية والبشرية ما هو كفيل بإصلاحها.