بقلم الدكتور: باب أبات
كان من عادتي في الصباح عند ما أخرج من غرفتي في السكن الجامعي، أن امر بشبابيك بيع الجرائد اليومية، فأختلس لحظات أغافل فيها البائع حتى أطلع على معظم عناوين الصحف ذلك اليوم ، و لم أكن أقتني إحداها إلا مضطرا و أمام جاذبية لا تقاوم لبعض العناوين التي تثير فضولا استثنائيا في نفسي.
و في ذلك اليوم من أيام الثلاثاء، غادرت العاصمة(الجزائر) باكرا قبل وصول الصحف إلى الأكشاك، فأخرت فترة الطريق التي قضيتها في القطار اطلاعي على أحداث اليوم والليلة الماضيين.
وفي محطة الوصول(بومرداس) كانت الأكشاك مزدحمة بالصحف، وكانت عناوينها مغرية: تحطم عدة طائرات أمريكية ، انفجارات غامضة في سماء الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم ما يثيره هذان العنوانان وامثالهما من فضول،فقد اجتزتهما متمنعا، إذ أن التجربة علمتني أن الطالب- محدود ذات الجيب- يجب أن لا يشتري أول صحيفة تصادفه، إذ سرعان ما يجد أخرى أكثر إغراء ، وهو ما تم عندما قرأت العنوان البارز لإحدى الصحف: جنون في سماء أمريكا، فهنا ضعفت ممانعة الجيب،أمام إلحاح العين، فاقتنيت إحدى النسخ وطفقت أقرأ مستكشفا تفاصيل هذا الجنون.
عند ما كنت أقرأ الأسطر تباعا، كانت نبضات قلبي تزداد في الاضطراب سراعا، إشفاقا على حال أمتي في قابل الأيام.
وكنت كل ما زدت غوصا في اعماق التفاصيل، احس بقلبي يزداد التحاما بالضلوع كأنما يريد أن يخرج من باطن الصدر إلى سطحه.
توقفت هنيهة متأملا مدى التطابق بين الواقع الشعوري لحظتها، والواقع الفكري للساحة الإسلامية في تلك السنة البكرمن قرننا الميلادي الحالي.
لم أكن - رغم ما أكنه من تقدير لمن يحمل هم أمته حتى ولو على حرف أو شطط- لم أكن على اتفاق مع الخيارات الفكرية التي تبنتها (قاعدة الجهاد) كما أعلنها الشيخ المرحوم أسامة بن لادن، فقد كنت أراهم كمن يبتدئ الطريق من نهايته، أو كمن يستهل الصلاة بالسلام.
وإذا اردت تقريب الفكرة باعتماد مثل السباحة الذي عنونت به المقالة، فقد كانوا يبدون لي كالسباح الباحث عن اللؤلؤ والكنوز والصدف والمرجان، يسبح طافيا على السطح غير مبارح له، مع أن شاعرنا المجيد( بضم الميم) قال على لسان ( أمنا الباكية)
أنــا البــحر فــي أحشـــــائــه الــدر كامـــــن
فـــهل سألـــوا الغــــواص عـــن صــدفــاتي
فالدرر والكنوز واللآلئ لا يجدها إلا من تجلد بالصبر حتى يصل إلى القاع ويمكث فيه.
ليس هذا الاختلاف مع فكر الشيخين بن لادن والظواهري رحمهما الله، ومن شايعهما أو نحى نحوهما من التيارات الجهادية فحسب، ولكنه مع كل مناصر للتغيير يتعجل تحقيقه ويسعى إلى قطف الثمار قبل الأوان.
إنه إيمان اكتسبته عميقا في نفسي، لست أدري هل صدمة من مالات مشروع الجبهة الإسلامية في الجزائر، وخيبة الأمل التي تركتها في نفوسنا نحن شباب التسعينات، الذين هتفت حناجرنا ورقصت مهجنا مع تنبؤات علي بن حاج وتأكيدات عباسي مدني :" هذا العام (1990) سيكون عام الدولة الإسلامية في الجزائر وبعدها نزحف لتحرير القدس".
أم هو شعور استبطنته من عبارات طالب الطب الموريتاني في مدينة تيزي وزو، المولع بالغوص في لجج الأنسقة الماركسية، عند ما قال لي ذات يوم بكل ثقة ويقين: إن التغيير لا يأتي استجابة لرغبتك أو رغبتي أو رغبة غيرنا، ولكنه يأتي نتيجة تطور حتمي متدرج تمر به المجتمعات.
ولم أناقشه ذلك اليوم، لافتقادي الحماسة لفعل ذلك، لأنني بقدر ما كنت أختلف معه في ما يقول كنت أوافقهإلى حد ما فيه.
وعودا على بدء، أقول إنني كنت أرى أن التغيير في المجتمعات هو –تماما- كالمعادلة في الكيمياء، يستلزم شروطا ومقدمات، كما يتطلب متفاعلات ومحفزات ووقتا.
وكما لا يمكننا استعجال أو إملاء نتيجة التفاعل، فكذلك لا يمكننا فرض التغيير قسرا.
إن ذلك بالضبط، هو ما رأيت أن المتعجلين من جهاديين وسياسيين وقادة ومناضلين ممن قد مر بنا ذكرهم وأمثالهم كثر، قد أغفلوه.
لقد أرادوا أن يستولدوا الغايات دون المرور بالبدايات، وأن يرهبوا الأعداء دون أن يعدوا القوة والعديد والعدة.
لقد كان برجا التجارة، والكونغرس والبنتاكون والبيت الأبيض، رموزا للقوة والصلف الأمركيين، ولكن هل كان ضرب هذه المقار بالطائرات المدنية المليئة بالأنفس المسالمة البريئة الوادعة؟ هل كان مبررا؟ من يستطيع أن يجيبنا، لوكنا شققنا عن قلوب ضحايا الطائرات والبرجين من المدنيين، كم نجد من المتعاطفين مع قضايانا، والمنكرين لسلوك أمريكا اتجاهنا؟,
ثم ماذا لدى شعوبنا المغلوبة في أفغانستان وفلسطين والعراق وغيرها من مناعة، ونحن نعلم أن هذه الضربات إن نجحت فإنها لن تزيد على أن تمثل خدشا يسيرا في جلد النمر الهائج المتوثب.
لقد كانت تلك الرموز رموزا فعلا، و لكنها رموز سطحية غير ذات بال، مقارنة مع الرموز العميقة للقوة الأمريكية: حاملات الطائرات، الحقيبة النووية، الصواريخ العابرة للقارات، ثم القواعد المنتشرة ومراكز البحث والجامعات,
ليس مهما ما يظهر على السطح بل المهم حقا ما يبقى في القاع. اجيبوني ما ذا يفيد علاج الورم الطافح على الجلد إذا كان سبب الداء وأصله جاثما راسيا قابعا في الباطن.
أما أفعال التغيير فإنالمفيد منها، هو ما يمكث في الأرض لينفع الناس، أما ما عداه فليس إلا زبدا يذهب جفاء من دون طائل.
إن دعاة التغيير الناجحين هم أولئك الذين يعملون في قاع المجتمع، ينشئون ويربون ويرشدون، فلا يحرقون المراحل ولا يستعجلون القطاف ولا يكرون إلا بعد أن يعدوا للمعركة عدتها سواء كانت تلك المعركة ثقافية أو سيا سية أو عسكرية.