لكي لا يُطمس إكسير المدرسة الجمهورية- عثمان جدو

شهدت المنظومة التربوية في الآونة الأخيرة محاولات عدة لانتشال ما تبقى من ذكرها من وحل الفساد والتخبط وانعدام الجدوائية؛ فتغيرت التسميات ودُمجت ثم فُصلت الوزارات ودُمجت مرة أخرى؛ وما كل ذلك إلا محاولة للاهتداء إلى البوابة الصحيحة للولوج الآمن نحو إصلاح يُخلِّص من عوالق الماضي المعيقة لحركة قطار المنظومة التربوية؛ المثقل بتراكمات الماضي، والمتهالك؛ لغياب وسائل الإعداد والإنجاز، تتابعت الندوات وتتالت الورشات وكان ذلك بداية تأسيسٍ لمسارٍ جديد أكثر ضبطا وتنظيما؛ تجلت بوادر ذلك بشكل أوضح بعد تنظيم أيامٍ تشاورية حول التعليم؛ شارك فيها أغلب المعنيين من أهالٍ وهيئات تدريسٍ وصُنَّاع قرار ومُعِينِينَ لهم جميعا، نُظمت هذه الأيام على المستوى الجهوي كي تُسمع كل الأصوات الميدانية؛ ثم مُركزت النقاشات واللقاءات حتى يُخلص إلى عصارة الأفكار المهمة وزبدتها المفيدة؛ فكان ذلك بالتلاقي على قانون توجيهي اعْتُبِرَ بعد ترسيمه خارطةَ طريقِ الإصلاح المضيئة.

لقد تضمن القانوني التوجيهي للتعليم مضامين وقواعد ومساراتٍ حريٌ بها إن طبقت -كما حُدِّدَ- أن تُحدث ثورةَ إصلاحٍ حقيقية؛ تنتعش بها المنظومة التربوية، ويُوصل بها إلى المؤمل، وطبعا لسنا في هذا الحديث بِواردِ بسط مضامين القانون التوجيهي؛ لكن لا بأس في الاستئناس ببعض النقاط الواردة في بعض محاوره، فمثلا لو تحدثنا قليلا عن لغة التدريس فإن في الإسراع في تنفيذ المعتمدِ في هذا القانون بخصوصها إحداثٌ للفارق في ظرفٍ زمنيٍّ قياسي؛ وسيكشف ذلك عن مدى استيعاب التلاميذ للمواد العلمية التي كانوا سابقا يترنحون في طريق اكتسابهم لها بفعل تعقيدات اللغة التي تزداد بتعقيدات المحتوى العلمي لكل مادة. 

ثم إن مقرر تنظيم تحويلات المدرسين التي كانت تطبعها الفوضوية والمتاجرة في الماضي ما هو إلا ثمرة طيبة من ثمار هذا التوجه، ينضاف إليه آخر بخصوص معيارية الترقيات، ولا يقل عن ذلك أهمية قرار إلزامية الزي المدرسي وإن كان يفترض أن يطرأَ عليه تحسينٌ في نسبة التكفل من الدولة، ولأننا في بداية التفعيل الحقيقي للمدرسة الجمهورية؛ فالأولى أن نرفع نسبة التكفل إلى %50 على الأقل ونستمر على ذلك حتى نكمل الخمسية الأولى من مسار المدرسة الجمهورية التي تضع رجلها على العتبة الثانية في طريق الإرساء والتثبيت والغرس في أذهان الأهالي والتلاميذ.

ويمكن القول من زاوية واقعية أن المنظومة التربوية طرأت عليها تحسينات كبيرة ومتعددة، وبعيدا عن عين الرضا وهروبا من عين السخط؛ فإن ما حصل من زيادةٍ في الرواتب والعلاوات يمكن أن يُذكر ويُشادَ به، دون التسليمِ أنه وصل حد المبتغى، أو الدرجة التي تنجي المدرس من جحيم الأسعار المرتفعة، وإكراهات الحياة التي تتطلب زيادة الأجور بشكل موازٍ، وتحسين العلاوات بشكل دائم؛

ولا يمكن أن يفوتنا التطور المعتبر في البنية التحتية كمًّا وكيفًا، بالإضافة إلى الطاولات والوسائل الضرورية الأخرى التي كانت رغم أهميتها يَعدمُها التلاميذ داخل الفصول، ومن ذلك أيضا؛ ولعله الأهم الطفرة الكبيرة التي حصلت في توفير الكتب المدرسية؛ رغم ما يعتريها من نواقص إجرائية تكدِّرُ صفوَ الصورة التي يمكن أن يرسمها توفر الكتاب المدرسي في يد التلميذ والتلميذ فقط بدل المخازن، أو الأسواق الموازية، أو أي وجهة أخرى، فحريٌ بنا أن نُفَعِّلَ كل الطرق الإيجابية التي تُؤَمِّنُ وبسرعة وصول الكتاب المدرسي إلى يد التلميذ داخل المدرسة، ونُمزق الصورة شبه السلبية الحالية التي تُظهِرُ المخازن مليئة بالكتب ويد التلميذ خِلْوًا منها!!، ولا ينبغي لنا ونحن نتحدث عن الكتاب المدرسي (أهم الدعامات التربوية) إلا أن نذكر الدروس المحضرة؛ لما لها من مزية تربوية وفوائد ميدانية، فهي تُذِيبُ الفوارق بين المدرسين، وتجعل ظالعهم رديفَ ضليعهم في قيمة المستوى وقوة تقديم المحتوى، ولذا وجب التنبيه على ضرورة تعميم توفيرها على مرحلة التعليم القاعدي بأكملها (الابتدائية والإعدادية) إن أمكن ذلك؛ ولا أقل من توفيرها بصورة مستعجلة لسنوات الابتدائية كاملة ولجميع المواد.

وفي إطار تثمين مهنة التدريس؛ حصل المستجد الأهم على مستوى التعليم الأساسي؛ الذي هو القاعدة التي تُثبَّتُ عليها أركان التعليم، والأساس الذي يحمل ثِقله؛ لكن المشتغلين بالشأن التربوي يغيب عنهم ذكره، والمتحدث يجهل الدواعي، ولا أرجو أن تكون مترتبة عن عدم إدراك قيمة هذا المستجد المتمثل في اعتماد سلك جديد في التعليم الأساسي هو(سلك معلم رئيسي)، فاعتماد هذا السلك فيه من الفوائد على المنظومة التربوية القدر الكبير؛ ومن ذلك مثالا لا حصرا أنه يُشجع الأكاديميين وأصحاب الشهادات الجامعية على الالتحاق بالمنظومة التربوية من بوابة التعليم الأساسي مع تمام الرضا؛ وهذه إضافة نوعية تزيد من القيمة المعنوية، ومن ذلك تثبيت المدرسين داخل القطاع؛ ومعروف أن القطاع عانى كثيرا من هجرة المنتسبين ومحاولتهم اللحاق بأي وجهة أخرى بحثا عن القيمة والمعنى والمردودية المادية؛ قد يظن البعض أو يفترض أن هذا الكلام سابق لأوانه أو أن المجموعة المشمولة في هذا السلك مازالت قليلة، وجهد المنظومة التربوية أكبر من أن يُسد هكذا ببساطة؛ لكننا نستبق هذه الفرضية وذاك الطرح بالقول أن الخطوات قد تُجدي نفعا منذ الإعلان عنها قبل التنفيذ ثم تفيد أكثر عند وجودها على أرض الواقع، ويمكن أن نُضيف إلى المزايا التي ذكرنا آنفا عن الفوائد التي سيعكسها وجود هذا السلك؛ تنشيط المنظومة التربوية، وانتعاشها، وضمان جودة وتماسك المردودية وسلامة المخرجات؛  ويعد هذا السلك دون مبالغة حسنة من محاسن التهيئة للمدرسة الجمهورية التي لا ينبغي أن ينصرف مدلولها عن مقصدها العمومي الجامع الذي يعكس المشهد المراد؛ وهو جلوس أبناء موريتانيا جميعا على نفس الطاولات، يلبسون نفس الزي، ويتلقون ذات الدروس؛ بنفس الوسائل في فترة زمنية واحدة.

 نُشير في الأخير إلى أن إقرار هذا السلك كتب التاريخ فضل اعتماده بتدبير من الله جل وعلا لفخامة رئيس الجمهورية وحظي بشرف التمهيد له والتخطيط المحكم معالي وزير التهذيب الأسبق رئيس الحزب الحاكم الحالي، قبل أن يرى النور ويجسد على أرض الواقع على يد وزير التهذيب الوطني الحالي قبل شهرين من الآن تقريبا، وبالنظر إلى أن المنظومة التربوية يُغطي التعليم الأساسي ثلثيها إن لم يزد على ذلك؛ فإنه من النجاعة بمكان أن نستعين بكوادر التعليم الأساسي أكثر فأكثر في التعيينات والتسميات للمهام السامية والصعبة التي تعاني منها المنظومة التربوية ويتأكد ذلك أكثر مع هذا الحدث الأخير الذي تحدثنا عنه في هذه السطور(معلم رئيسي) والذي يمكن أن يلعب دور الإكسير الذي يعيد لجسم المنظومة التربوية حياته بعد اليأس، ويُحوِّل المستحيل فيه إلى حقيقة منجزة ماثلة؛ إذا هو أُظهِر واستُعِين به ولم يُطمر جهده الكامن أو يُطمس إشعاعه الممكن.