لم ينتظر رئيس محكمة الحسابات مزايدة السياسيين ، أو ضغط النواب داخل الجمعية الوطنية ، أو تقادم المعطيات الموجودة بين يديه ، أو رحيل المشمولين فى ملف التفتيش الأخير، أو تجاوز الاستحقاق الإنتخابى ، لنشر خلاصة ما رصده قضاة المحكمة، وعصارة ما أستنتجوه من متابعة سير الأمور داخل العديد من الدوائر الخدمية والقطاعات السيادية؛ ضمن رؤية قال رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني ذات يوم مشهود بأنها لن تستثنى أي أحد، مهما كانت دوره الوظيفى ، أو قربه من دوائر صنع القرار ، أو اندفاعه من أجل التمكين للنظام السياسى الذى يقوده صاحب الفخامة، فالفساد لاحزب له، ومن أختار تنكب السبل المضبوطة بقوانين المالية وتوجيهات المستوى السياسى، لزمه تحمل نتائج أفعاله، والعودة لمنزل ذويه، متحملا وزر الأخطاء التي أرتكب عن وعي أو بدون وعي، وتسديد ما سلبت يداه من أموال عمومية ، إذا كان ممن تختلف عليه الحسابات الرسمية مع حسابه الشخصى، أو من يبدع فى تجزئة الصفقات العمومية للهروب من سيف الرقابة الداخلية ، أو ممن يتصور أن بعض أدعياء النفوذ قد يمنحونه الحصانة اللازمة ، إذا أختارهم كشريك ، أو تعامل معهم عن قناعة، أو بتوصية من زميل أو رئيس فى العمل بشكل شفوي دون حماية نفسه بالسير طبقا للنصوص المصفوفة فى مكتبه. لقد تبين للكل كم هو واهم من يعتقد بأن توجيه صاحب الفخامة العلنى للمسيرين والإداريين غير مقصود أو أن كلامه أريد به وجه الشارع والإعلام.
لقد نشرت محكمة الحساب دون تأخير تقريرها الدوري، والذي رصد مظاهر الإخفاق فى عدة قطاعات حيوية، بينها مؤسسة تابعة لأحد القطاعات السيادية ، ظلت طيلة السنوات الماضية خارج سيف الرقابة ، رغم دعوات المعارضين ومظاهر العجز البادية وأصوات عمالها المرتفعة من وقت لآخر تنشد التكوين والتطوير والعدل فى العلاوات وانتقاء العمال على أسس قانونية والشفافية فى التسيير.
لم يحتج فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لطرح طلب بنشر التقرير ضمن أجندة الأحزاب المحاورة ، أو الدفع به للجمهور بصورة انتقائية أو منح ضحايا فرصة للتحرك من أجل إنقاذ الموقف، ولم يهتم بتداعياته السياسية، وهو الذاهب إلي الإنتخابات الرئاسية بعد أشهر، فلا خير قى دعم يحمي سلوك فاسد، ولايحتاج الرئيس فى سيره نحو المأمورية الثانية، لأكثر من عمل ينفع الناس ويمكث فى الأرض وسلوك يختلف بالكلية عمن سبقوه؛ تكريما لمن يستحق التكريم، وتقريعا لمن يستحق التقريع، وتأديبا لمن يستحق التأديب، ولو أن عقود الإهمال والضعف جعلته يأمن العقوبة ويتصرف بأموال الشعب تصرف المحتل فى أموال ومصالح المحتلين.
لقد قال أحد المعارضين ممن دأبوا على التقليل من أي جهد حكومي ، ( الحكم على التقرير بعد القراءة والنطر إلى تصرفات الرئيس مع المشمولين فيه ! )إنها نفس اللغة التي كانوا بالأمس يتحدثون بها مع نظام مختلف. لكن نسي المعارض المذكور أو جهل أن المشمولين فى التقرير الذين أدانتهم هيئة المحلفين رحلوا قبل التقاط رئيس المحكمة للصورة المتداولة مع رئيس الجمهورية ، لقد كان الأمر أسرع مما توقع الكل، فقد كرس الرئيس ليله لمراجعة التقرير، وأخلى بعض المواقع من أصحابها صبيحة الأربعاء، والبعض أقيل قبل أشهر ضمن تداعيات تفتيش سريع آخر ، وبعض الجهات ذات العلاقة بالتقرير من رموز المشهد السياسى تتنتظر بقلق بالغ عودة الرئيس من مصر وانتهاء الحداد لتعرف مصيرها؛ أترحل بشكل فوري وقد أدينت أخلاقيا بتقرير صادر من جهة قضائية محترمة ؟ أم تكمل أشهر السنة المالية الجارية وقد أشرفت على النهاية ، ضمن ترتيبات يعكف عليها الرئيس ويحاور من أجلها بعض معارضيه، بغية إنضاج رؤية تشاركية للأوضاع الداخلية فى بلد يمر بمرحلة شبه انتقالية من حياته السياسة ؛ فيها لتعزيز دور المؤسسات وبناء الدولة وتصحيح الاختلالات الملاحظة النصيب الأوفر . إنها انتقال من حياة الفوضوي وسوء التسيير إلى سعة العمل من أجل مصالح الشعب واحترام الإجراءات القانونية والقيام بالواجب دون تفريط أو تقصير .
لقد تعهد رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني بحرب لاهوادة فيها ضد الفساد، وحذر المسيرين من مغبة الأخطاء ، وحمل الوزراء كامل المسؤولية عن تسيير القطاعات الوزارية ، وأنتقد بشدة ضعف لجان الصفقات الداخلية ومسؤولو التفتيش الداخلي ؛ وهي لجان قد تجد نصيبها من التفعيل فى القريب العاجل، أما التفتيش الداخلى فقد آن الأوان لتحميله بعض المسؤولية؛ فهو إما شريك بالتآمر أو شريك بالضعف والتقصير .
إن إقالة المشمولين فى التقرير بغض النظر عن مكانتهم السياسية أو الاجتماعية أو المنصب الذي يشغلونه بعد نشر التقرير تكشف بجلاء أن حرب الرجل مع الفساد غير قابلة للتفاوض ولاهدنة أو مصالحة مع فاسد مهما كان.