حيُّوا معي فئةً من الناس، ضربوا أروع الأمثلة في التضحية، والفداء، والوفاء، والثبات، والإقدام، وكانوا نِعْمَ النموذج .. عمِلوا في أحلك الظروف، وأضيق الأحوال، وفي ظل أوضاع مأساوية وكارثية .. استمَرُّوا ولم يَفِرُّوا، أقبلوا ولم يُدْبِروا.
إنهم أطباء غزة المرابطون .. نَعَمْ، المرابطون بحق، فهذا من أعظم الرباط .. أطباء غزة الذين واصلوا الليل بالنهار، خِدْمةً لمرضاهم .. امتلأت المستشفيات بالنازحين، فاحتضنوهم، واستوعبوهم، ولم يُبْدوا ضجرًا، أو تَمَلْمُلًا .. عمِلوا في غرف العمليات المجهزة، ثم في الغرف غير المجهزة، ثم عمِلوا في طرقات مستشفياتهم، تقلَّصت الإمكانيات وقُدُرات المستشفيات، فصمدوا ولم يُصَدِّروا العجز، انقطعت المياه، فاستمروا، وانقطعت الكهرباء فاستعانوا بكشَّافات الجَوَّالات، وأجروا الجراحات تحت الأضواء الخافتة .. شُغِلَت جميع الأسِرَّة في المستشفيات، فوضعوا مرضاهم على الأرض ومضَوْا يُكْمِلون عملهم.
نَفَدَ الوقود، ونفد المخدر اللازم لإجراء العمليات، فاضطروا لاستخدام مُخدِّرات موضعية، ثم اضطروا إلى إجراء الجراحات بلا أية مُخدِّرات.
يدخل أحدهم على دفعة جديدة من الشهداء أو المصابين الذين جيء بهم للتَّوِّ إلى المستشفى، يكشف عن وجوهِهِم، فيا لهول الصدمة! إنه أبوه، أو أمه، أخوه، أو أخته، ابنه، أو ابنته!!!
لك أن تتخيل المشهد!!!
يا الله، أفرغ علينا الصبر، وصُبَّه علينا صَبًّا.
تُحاصَر المستشفيات وتُقْصَف، فيثبت الأطباء .. يُطْلَب منهم الإخلاء، فلا يستجيبون، ويزداد تَمَسُّكُهُم بمرضاهم، ويُعْلِنون: مع مرضانا إلى آخر رَمَق .. لن نفارق مرضانا .. إنه لجهاد، صبر أو استشهاد.
يستشهد بعضُهُم، ويُصاب آخرون، وتُقصَف بيوتُهُم، لكن الأهم أداء الرسالة، وحفظ الأمانة، وإثبات الرجولة.
بالله، أخبرونا عن نموذج كهذا، وأنبئونا عن قومٍ كهؤلاء.
حيَّا اللهُ أطباءَ غزة، وحفظهم، وجعلهم ذخرًا لشعبهم، وأمتهم، ووطنهم وأرضهم المباركة.