تعدُّ مصادقة لجنة التراث العالمي على تسجيل المحظرة الموريتانية في قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو مكسبا كبيرا لبلادنا، وبهذه المناسبة السارة، فإنه قد يكون من المهم أن نتحدث عن موضوع في غاية الأهمية، لم يجد من يتحدث عنه من قبل، وسنحاول في هذا الحديث أن ننظر إلى المحظرة من زاوية غير تقليدية، أي من زاوية اقتصادية بحتة، فالمحظرة يمكن أن تشكل بالفعل موردا اقتصاديا مهما للبلد، يدر عوائد مالية معتبرة ضمن ما يسمى بالاقتصاد الثقافي، خاصة وأن بلادنا تملك ميزة تنافسية كبيرة في هذا المجال.
لقد عُرفت بلادنا في الماضي (بلاد شنقيط) باللغة العربية والعلوم الشرعية، وكسبت بذلك سمعة حسنة في العالمين العربي والإسلامي، وهي لا تزال تُحظى بتلك السمعة الحسنة، فلماذا لا نستثمر في هذه السمعة الحسنة ونحولها إلى مورد اقتصادي من خلال استغلال الميزة التنافسية التي نمتلكها في هذا المجال، وبذلك نكون قد خدمنا العلوم الشرعية واللغة العربية من جهة، وحققنا مكاسب مالية لبلادنا من جهة أخرى، أي أننا جمعنا بين خيري الدنيا والآخرة من خلال الاستثمار في المحظرة.
وحتى لا يبقى هذا الكلام مجرد كلام نظري، فإليكم بعض الأفكار والمقترحات المحددة.
1 ـ يمكن لبلادنا أن تؤسس مركزا دوليا للتدقيق اللغوي عن بعد تكتتب فيه عددا كبيرا من أساتذة اللغة وخبرائها في بلادنا، وهم موجودون بأعداد كبيرة ولله الحمد، على أن يتولى هذا المركز التدقيق اللغوي لصالح دور النشر والمؤسسات الإعلامية، ولكل ما يكتب وينشر باللغة العربية، وخدمة التدقيق اللغوي أصبحت مطلوبة في الكثير من البلدان العربية والإسلامية.
بالفعل، هناك حاجة كبيرة لتأسيس مركز للتدقيق اللغوي في موريتانيا، يقدم خدمة التدقيق عن بعد، وعلى المستوى الشخصي فقد تلقيتُ في أوقات سابقة طلبات من جهات خارجية تبحث عن مدققين لغويين في موريتانيا؛
2 ـ تأسيس جامعة أو أكاديمية أو معهد دولي يحمل اسم المحظرة الموريتانية يتخصص في تدريس علوم اللغة والعلوم الشرعية بشكل مباشر وعن بعد، ويستخدم التقنيات الحديثة لذلك، ويُفتح التسجيل فيه أمام آلاف بل عشرات الآلاف إن لم أقل مئات الآلاف من المسلمين في العالم، الذين يرغبون في تعلم الإسلام عن طريق مراكز وجامعات مؤتمنة.
هناك عدد كبير من غير المسلمين يدخل في دين الإسلام يوميا، وبعض هؤلاء قد يقوده البحث عن تعلم الإسلام إلى الوقوع في حبائل منظمات إرهابية أو جماعات بلباس صوفي حرفت الدين وأدخلت فيه طقوسا تعبدية لا صلة له بها.
من المؤكد أن تأسيس جامعة أو معهد موريتاني يُعَلم وينشر دين الإسلام بشكل مباشر أو عن بعد، سيستقطب الكثير من طلاب العلم، خاصة من المسلمين الذين يوجدون في دول غير مسلمة، ويجدون صعوبة كبيرة في تعلم العلوم الشرعية واللغة العربية.
لقد نشر أجدادنا العلوم الشرعية واللغة العربية خارج موريتانيا بوسائل تقليدية كانت صالحة في فترة من الزمن، فلماذا لا نواصل نحن اليوم ذلك الجهد مستفيدين مما تتيحه التقنيات الحديثة في هذا المجال، ومستفيدين كذلك من السمعة الحسنة التي تركها لنا آباؤنا وأجدادنا في هذا المجال؟
3 ـ في يوم 29 أكتوبر 2022 وجهنا في الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية نداء إلى القادة العرب خلال قمة الجزائر، وطالبنا من خلال هذا النداء بتأسيس منظمة دولية تعنى باللغة العربية تنتسب لها بالإضافة إلى الدول العربية كل الدول الإسلامية التي تستخدم فيها اللغة العربية بصفتها لغة ثانية أو ثالثة.
وقد حاولنا في الحملة أن ننظم مؤتمرا في موريتانيا في إطار أنشطة نواكشوط عاصمة للثقافة الإسلامية نستضيف فيه جمعيات وهيئات مهتمة باللغة العربية من مختلف البلدان الإسلامية، على أن يصدر هذا المؤتمر توصية تطالب بتأسيس منظمة دولية تعنى باللغة العربية.
لقد حاولنا ذلك خدمة للغة العربية وخدمة لموريتانيا، فنحن نعتقد أن موريتانيا ستكون من بين الدول الأكثر استفادة من تأسيس منظمة من هذا القبيل، وذلك نظرا لموقعها الجغرافي، وكذلك نظرا لتمكن أبنائها من اللغة العربية، وكل ذلك سيجعل من اختيار موريتانيا مقرا لهذه المنظمة أمرا واردا، خاصة وأن بلادنا تحتفظ في هذا العهد بعلاقات طيبة مع كل البلدان العربية والإسلامية.
لم نتمكن للأسف من تنظيم هذا المؤتمر، لغياب الداعمين، ولعدم تجاوب وزارتي الثقافة والخارجية مع هذا المقترح، ومع ذلك فستبقى فكرة عقد مثل هذا المؤتمر مفيدة للبلاد، وحتى في حالة عدم انعقاده فيمكن للحكومة الموريتانية أن تتبنى فكرة تأسيس منظمة دولية تعنى باللغة العربية، وأن تطرحها في المحافل العربية والإسلامية، ومن المؤكد أن ذلك سيزيد من احتمال اختيار موريتانيا مقرا لهذه المنظمة في حالة الاتفاق على تأسيسها.
على موريتانيا أن تهتم رسميا وشعبيا باللغة العربية، والتي سنخلد يومها العالمي بعد أيام قليلة، ويجب أن لا يقتصر ذلك الاهتمام على كون هذه اللغة هي اللغة الرسمية للبلد، رغم أهمية ذلك، وإنما يجب أن يمتد أيضا إلى أمور أخرى منها أن بلادنا يمكنها أن تحقق مكاسب ثقافية ودبلوماسية واقتصادية مهمة من خلال الاهتمام بالعلوم الشرعية واللغة العربية، عن طريق تطوير المحظرة الموريتانية وجعلها قادرة على تدريس العلوم الشرعية واللغة العربية للمسلمين خارج موريتانيا، وذلك من خلال استخدام التقنيات الحديثة، والتركيز على التعليم عن بعد.
حفظ الله موريتانيا..