في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منها إلى إطلاع متابعيها الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل متوازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد القامات الفكرية والأدبية ممن لديهم اليد الطولى في ميدان الفكر والأدب، فهو مجلي الميدان وسابق الأقران فيه، فقد بذهم علما وأدبا وفاقهم فكرا وعلما، نحاوره اليوم لنستجلي من خلاله ما وراء الخبر، في لقاء شامل، حول قضايا الساحة الأدبية والفكرية الثقافية، وبعض القضيا السياسية خاصة ما يتعلق بالعمل البرلماني.
فأهلا وسهلا بضيفنا الكريم النائب البرلماني الخليل النحوي.
موقع الفكر: كيف ترون واقع الثقافة والفكر في موريتانيا ؟؟
الخليل النحوي: بسم اللـه الرحمن الرحيم
هذا السؤال يستحق أن يكون موضوع دراسات تستهدف التشخيص والتقييم والتقويم، ومن الصعب الإجابة عليه في مقابلة واحدة، ولا أحب الإجابات الانطباعية العامة، لكن لا بد مما ليس منه بد ولا أستطيع أن أكون عدميا.
الثقافة في موريتانيا تتحرك بما تمليه الحياة وطبيعتها، وأعتقد أننا شهدنا تطورا باعتبارات كبيرة. شهدنا وفرة في أعداد الشعراء والكتاب والأدباء، شهدنا وفرة كبيرة بل طفرة في عالم الإعلام منذ مطلع التسعينيات مع الصحافة الحرة: مئات التصاريح لصحف صدر منها العشرات وتعثر منها المئات لكنها عكست دينامية حيوية ، و حراكا ثقافيا حريا بالاعتبار، بالرغم مما قد يكون شابَهُ من نواقص وثغرات.
شهدنا بعض المظاهر الأخرى للحركية الثقافية في كثرة الأندية والندوات الثقافية والمهرجانات التي حدثت طفرة في عددها، وكانت أمثالها قليلة قبل ثلاثين أو أربعين عاما ولم تفتأ تزداد ، حتى أصبحت هنالك مهرجانات للقرى أو بعض القرى فضلا عن الندوات الكثيرة التي لا يكاد يمر يوم في العاصمة نواكشوط إلا وفيها منها واحدة أو أكثر.
هذه كلها معالم وملامح لحراك ثقافي جديد ينضاف إليه جانب مهم، أبلغ دلالة، هو كثرة الكتب التي نشرت خلال العقدين الأخيرين لمؤلفين موريتانيين. وهذه تطورات ينبغي أن يعترف بها وتقدر. ومع ذلك فلسنا في الوضع الذي نقول فيه: " ليس في الإمكان أبدع مما كان".
الحراك الثقافي حراك بحاجة إلى تسديد وتفعيل وتنشيط، فما زال هنالك ركود كبير، فعطاء الدولة في المجال الثقافي محدود، ومبادرة الكتاب التي طرحت في حقبة ماضية وئدت أو تكاد تكون، ولم يُستفد من المكتبات أو دور الكتب شيء ذو بال. وسوق النشر ضعيفة جدا والأعداد التي تنشر من الكتب والمجالات ضئيلة، وكذلك من باب أولى الصحف. السوق الثقافية، بالرغم من كل ما ذكرناه، سوق راكدة إلى حد كبير وهي بحاجة إلى بوصلة وخطط استراتيجية هادية تبنى عليها سياسات ذات غايات وأهداف محددة. وأعتقد أننا في هذا المجال نعاني عوزا بينا.
وهناك تغير كبير في العالم كله فثورة المعلومات تستدعي تغييرا في السياسات الثقافية، وسيطرة الإعلام الشبكي الذي أصبح صحافة العصر وأصبح ثقافة العصر بل ومدرسة العصر تعتبر معطى جديدا. وكل هذا يقتضي إعادة نظر وإعادة تأسيس لبناء سياسة ثقافية جديدة.
وبالخلاصة، فإن الوضع الثقافي للبلد يمكن أن ينطبق عليه المثل الإنكليزي، مثل الناظر إلى كأس نصفها فيه صبابة ماء أو أكثر والنصف الآخر فارغ، يراه المتأمل كذلك بكل تأكيد.
موقع الفكر: ما هي رؤيتكم لتكامل العلوم وهل ما زال بالإمكان الموسوعية في عصر التخصص ؟؟
الخليل النحوي: هذا حكم لا أستطيع الطعن فيه لكنني أدعو للنظر فيه، هل نحن فعلا في عصر التخصص
؟ إذا نظرنا إلى الأنظمة التربوية يمكن أن نقول إنها صيغت صياغة السير المتدرج نحو التخصص فكلما تدرج الإنسان صعدا في التعليم يتخصص تخصصا دقيقا، وقد صمم النظام التربوي المعاصر من أجل هذا، لكن كم عدد الذين يصلون إلى مرحلة التخصص؟ ما يزال هذا العدد ضئيلا جدا إذا قيس بمن يدخلون المدرسة من أول مراحلها أحرى إذا قيس بعدد السكان.
هناك نزوع إلى التخصص وهذا أمر مطلوب وليس جديدا، لكن ثقافتنا تعتبر المعارف ذوات أرحام، ولا تؤمن بهذه الجزر المتنابذة، التي أنشأها النظام التربوي المعاصر حين جعل حقول المعرفة البشرية جزرا متباينة لا يكاد يربط بينها رابط، فالمهندس لا شأن له باللغة والعالم الإنساني لا شأن له بالهندسة. وهذه النظرة تقتل في الإنسان الملكات المودعة فيه؛ فاللـه سبحانه وتعالى أودع في كل إنسان مجموعة من الملكات المستكنّة ، والنظام التربوي يَفْعَل فِعْل المدرسة الأساسية التي هي البيت – "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، كذلك النظام التربوي يُفَعِّل أو يُعَطِّل تلك الملكات الكامنة. فالإنسان يأتي إلى هذه الأرض مزودا بطاقات مستكنة، نستطيع أن نصنفها تقريبا للأذهان في ثلاث فئات: ملكات لسان، ملكات بَنان، وملكات جَنان. فملكات اللسان هي ملكات التواصل والخطاب واللغة، وملكات البنان هي المهارات العملية التي نستخدم فيها جوارحنا، وملكات الجنان هي القدرات العقلية الناظمة لذلك كله، والأصل أن الإنسان يأتي مزودا بهذه الملكات جميعها.
ومن مخاطر التخصص أنه قد يعطل جزءا من هذه الملكات فتجد أديبا خطيبا مفوها وهو لا يفقه شيئا في مجال المهارات، لا يستطيع أن ينجز بيده عملا ذا بال. وتجد مهندسا يستطيع أن يصمم آلة لكنه عيي اللسان، لأن المدرسة أو الجامعة عطلت فيه هذه الملكة الأخرى. ونحن بحاجة إلى إعادة " التجسير" والربط بين المعارف البشرية... إلى إحداث أو استعادة التواشج بين هذه المعارف باعتبارها ذوات أرحام ينبغي أن توصل، وأن يغتني بعضها من بعض وأن يغتذي بعضها من بعض، وبهذا المعنى ما تزال هناك حاجة ماسة إلى جرعة من الموسوعية، وقد قال أحد علماء السلف ولا أتذكر بالضبط أيهم، وأظنه ابن العربي، إنه لا ينبغي للإنسان أن يكون عالما في فن أو ذا حظ في فن وأن يكون حمارا في ما سواه، أي لا بد أن يأخذ من العلوم الأخرى بنصيب. وهذا مبدأ تليد عتيد عندنا في المحضرة
من كل فن تعلم تبلغ الأملا ولا يكن لك فن واحد شغلا
فالنحل لما رعت من كل نابتة أبدت لنا الجوهرين الشمع والعسلا
فنحن بحاجة إلى التخصص، لكننا نحتاج كذلك إلى أن نهدم الجدر بين المعارف البشرية، ونحتاج إلى تنمية الملكات البشرية الثلاث في أي مساق من مساقاتنا الدراسية.
موقع الفكر: ماذا تمثل بالنسبة لكم المحضرة الموريتانية؟
الخليل النحوي: تمثل بالنسبة لي كل شيء فأنا مدين لها ـ على بضاعتي المزجاة منها ـ بكل شيء ، وأعتقد أنها تمثل الكثير بالنسبة لبلدنا، فالمحضرة الموريتانية صاغت موريتانيا بالأمس عندما كانت تسمى بلاد شنقيط ، وصاغتها اليوم عندما أصبحت الدولة مستقلة فقامت الدولة على كواهل عدد مهم من خريجي المحاضر الذين لم يجدوا صعوبة أو يلقوا عنتا في إدارة الشأن العام، أي أن المحضرة أعدتهم إعدادا تربويا وعلميا لأداء وظائف مختلفة، فالمحضرة كما وصفتها في بعض ما كتبت عنها كانت مدرسة للحياة، ونحن بحاجة لمدرسة للحياة، لا لمطلق مدرسة في الحياة. وليس المهم الكتابة في اللوح والتهجي وتركيب الكلمات بل المهم أن نعد الإنسان لصناعة الحياة وللعبور منها بشكل مشرف لأنها دار عبور. وهذه الأدوار كان للمحضرة فيها عطاء غير ممنون ، عطاء حري بالتقدير والاحترام. أما اليوم فتلك مسألة أخرى.
موقع الفكر: هل الأجدى أن تبقى المحضرة على حالها أم تخضع لعملية تحديث؟ وإذا كانت هناك ضرورة للتحديث فكيف يكون ذلك؟
الخليل النحوي: كل الكائنات الحية تخضع لمسار من التطور والتغير ، والمحضرة ظاهرة من تلك الظواهر التي تخضع لنواميس الحياة وقوانين الكون ولا يتوقع أن تكون ثابتة ثباتا مطلقا، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك.
قد يكون من المفيد أن تكون لنا محميات ثقافية، كما أن لنا وللعالم كله محميات بيئية وطبيعية، أتصور أن تكون لنا محاضر عتيقة نحافظ عليها قدر الإمكان باعتبارها محميات ثقافية في وضعها الأصيل قدر الإمكان، لكن مع جرعة من مسهلات التكيف والحياة في عصر متغير. لا يمكن أن يتغير كل شيء حول المحضرة ولا يحدث فيها تغير. اليوم هنالك روح في المحضرة، والسؤال الوارد هو: كيف نستنبت تلك الروح؟ كيف نحتفظ بها؟ لو أخذنا على سبيل المثال مقارنة بسيطة بين المحضرة والمدرسة النظامية سنجد أنه في المدرسة النظامية تنتشر ظاهرة الإضراب والتسرب وتستنبت عقليات لم نعهدها في المحضرة، خريجو المدرسة يبحثون في الغالب عن مؤهل ورقي غرضهم من اقتنائه الوصول إلى وظيفة معينة، أما المحضرة ففيها روح أخرى والناس فيها رهبان علم لا ينتظرون منحة ولا يضربون لأسباب مادية.
النظرة إلى شيخ المحضرة تختلف جذريا عن النظرة إلى المعلم في المدرسة، وهناك حالة روحانية في المحضرة تفتقر إليها المدرسة، وتلك الحالة ينبغي أن تحافظ عليها المحضرة، وهناك أسئلة لابد أن تطرح وهي كيف تحافظ المحضرة على روحها ؟ وكيف تحافظ على الأساسي من منهجها ؟ لكن كيف تعيش أيضا عصرا متغيرا ؟ أعتقد أن المحضرة اليوم بحاجة إلى أن تعيد النظر في مناهجها وأدواتها التربوية. ما المانع اليوم أن يكون لدى طالب المحضرة لوحه الرقمي؟ واللوح في نظري دائما من مؤشرات الاعجاز، واللـه سبحانه وتعالى وضع سرا في الألواح حين قال " وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها.. الخ " وكأن الألواح تتطور من حسن إلى أحسن، واليوم هناك ألواح أحسن لأنها تتيح لنا سهولة في التعامل مع المادة المدرسية، فما المانع من أن تدخل الألواح الرقمية محاضرنا، ما المانع من أن تعيد المحضرة صياغة برامجها لتلبي احتياجاتنا أكثر. لا نريدها أن تكون مدرسة للمهندسين وإنما نريدها أن تؤدي رسالتها، أعني رسالتها في عصر جديد سريع التغير كثير النوازل والمستجدات. نحن اليوم بحاجة إلى أن ندرس في المحضرة معاملات وفقه ونوازل العصر. أسلافنا من العلماء أدركوا ما تقتضيه هذه السيرورة من التكيف، أولئك الذين كانوا يتجاوزون أبوابا ومواد لا يحتاجون إليها في غالب شأنهم حينذاك، كما هو الشأن في الكفاف للعلامة محمد مولود ولد أحمدو فال الذي حدد إطار منهجه واستثنى أو أقصي بعض المواد المهمة جدا ولكنها لم تكن ذات أولوية بالنسبة للبيئة آنذاك، يقول العلامة آدّه:
لا ما استبد ببلاد النائية كالجمعات وشراء الأهوية..
لم يكن أهل البادية بحاجة إلى دراسة الحج ولذلك لم يتطرق إليه، ولم يكونوا بحاجة إلى دراسة أحكام الجمعة ولا أحكام بيع الأهوية، أما نحن اليوم فحاجتنا ماسة إلى دراسة تلك الأحكام لأن لدينا المباني التي تبنى طبقا فوق طبق، ولدينا مشاكل جديدة كثيرة، وعلى المحضرة - إذا أرادت أن تبقى وأن تنفع الناس أكثر - أن تقدم إجابات على إشكالات العصر ومسائله المستجدة. هذا جانب ينبغي أن يحدث فيه تطوير جدي. فعلا نحن بحاجة إلى حراسة تراثنا، لكن لا ينبغي أن ننكفئ عليه، فلا بد أن تجيب المحضرة على أسئلة العصر، المحضرة في شق اللغة لا يمكن أن تكتفي بتدريس متون الشعر الجاهلي مع أهميتها لكن ينبغي أن تتجه نحو ما هو وظيفي أكثر فأكثر، اليوم نحن بحاجة إلى دراسات لغوية تلبي حاجات أكثر في السياق الراهن. هذه بعض الأمور التي تحتاج إلى تغييرات في هندسة المحضرة دون أن تخل بجوهرها أو تنال من روحها، فلابد لنا من جرعة من التغيير حتى لا تختنق المحضرة وحتى تساهم في تلبية احتياجات عصر مختلف وبيئة مختلفة وحركة دائبة للإنسان في الزمان والمكان.
موقع الفكر: كيف ترون واقع اللغة العربية في موريتانيا؟
الخليل النحوي: كثيرا ما كان أسلافنا يتغنون بفروسيتهم اللغوية ولهم الحق في ذلك وهذا أمر شهد به الآخرون، أتذكر أن جاك بيرك وصف موريتانيا بأنها كانت قلعة اللغة العربية في القرون الثلاثة الماضية، وكذلك وصفها رجال الإدارة الفرنسية عندما فوجئوا بهذا المجتمع العالم بالرغم من بداوته، هذا المجتمع الذي فند قاعدة من قواعد علم الاجتماع صاغها ابن خلدون في قوله إن "العلم ربيب الحِضارة"، فقد كان العلم في هذه البلاد ربيب البداوة وربيب الحضارة كذلك، يمكن القول إن أهل هذه البلاد كانوا من أبرز سدنة اللغة العربية ويكفي أن نشير إلى تلك الواقعة البالغة الدلالة عندما ثار جدل كبير في أروقة الأزهر بمصر في مسألة لغوية هي " صرف عمر "، كان السؤال المطروح حينها هل هذا العلم مصروف أم لا ؟ فكان طرفا وقطبا ذلك السجال اللغوي عالمين شنقيطيين هما محمد محمود بن التلاميد في جرأته على مراجعة الموروث وقوله بصرف عمر وسيدي أحمد بن الأمين في قوله بعكس ذلك. ومن طالع كتاب " الأيام " لطه حسين يجد أمرا غريبا وهو تصريحه أن درس اللغة العربية كان مهملا في الأزهر إلى أن جاء الشيخ الشنقيطي، فهذه شهادة من أهل تلك البلاد على أن علماءنا كانوا مجلين في ميدان اللغة العربية، ولكن هل ما زلنا كذلك؟ أم أننا نتغنى فقط بماض مجيد عتيد قد ولى ؟
فهل إن كان حاضرنا شقيا* نسود بكون ماضينا سعيدا
أعتقد أن حال اللغة العربية اليوم لم يعد كما كان، فهناك تحديات كبيرة معظمها - ويا للمفارقة! - حدث في عصر الدولة المستقلة، فقد حدث من التمكين للغة الفرنسية في عهد الاستقلال ما لم يكن طيلة 60 سنة من عهد الاستعمار، ولسنا ضد أية لغة من اللغات، واللغة الفرنسية لغة عظيمة وهي نافذة للإطلال على ثقافة مهمة، لكن ما حصل جعلها إلى حد كبير مع الأسف لغة ضرارا. لو كانت لغة انفتاح لكان ذلك أمرا حسنا ولقلنا لها مرحبا، لكنها أضرت باللغة العربية وزاحمتها في عقر دارها ومن الغريب أننا اليوم ندرس العلوم والرياضيات حصرا باللغة الفرنسية، ونحن بذلك نحكم ضمنا - بل تصريحا بواقع الحال - بأن اللغة العربية لا تصلح لتدريس هذه العلوم. لغتنا تعاني للأسف في بلادنا، وتلك المعاناة مما دفعنا إلى إنشاء " مجلس اللسان العربي " وهو هيئة بحثية نشأت في هذه الظرفية الخاصة. المعلومات التي لدينا أنه منذ فترة طويلة نسبيا، لم تستطع جامعة نواكشوط ولا المدرسة العليا للتعليم ولا المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية ولا جامعة لعيون الإسلامية اكتتاب أستاذ متخصص في اللغة العربية، وإنما كانت إذا احتاجت أستاذا في اللغة العربية تسند تدريسها إلى أستاذ في الادب أو النقد لندرة الأساتذة المتخصصين في لغة القرآن. وهذه حالة غريبة جدا، نعوذ باللـه من الحور بعد الكور. ومن الغرائب أن بعض طلبتنا وأساتذتنا كانوا يشدون الرحال إلى الجارة الشقيقة السنغال من أجل الحصول على دكتوراه في اللغة العربية بداكار، والحال أننا كنا ندعي أننا سدنة هذه اللغة. وعموما يمكن القول - وللـه الحمد - أنه حدث شيء من التغيير لأننا بدأنا المرحلة الثالثة بالماجستير وربما بالدكتوراه في بعض كلياتنا وشعبنا المعربة، لكن حالة اللغة العربية اليوم هي حالة يرثى لها وأعظم ما ابتليت به عقوق بعض أبنائها ونفورهم منها وسوء ظنهم بها، وهي مقابل ذلك لغة حية تتوقد حيوية وفتوة، وتزاحم اللغات الأخرى عبر العالم فهي تحتل اليوم المرتبة الرابعة عبر الشبكة العنكبوتية متقدمة بأكثر من مرحلة على اللغة الفرنسية وهي أسرع اللغات تطورا في تلك الشبكة بدون منازع في 16 سنة الماضية تقريبا حدث تطور يناهز 9 آلاف بالمئة في عدد مستخدمي الشبكة العنكبوتية باللغة العربية، وتصدرت بذلك لغات العالم متقدمة بنحو ضعفين على الروسية التي تليها في الترتيب. اللغة العربية لغة فتية رغم أنها عميدة اللغات، ذات حيوية، والناس في العالم من حولنا يبحثون عنها، ومن المؤسف غاية الأسف أن نسيئ نحن الظن بها ولا ننزلها منزلتها:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة* على النفس من وقع الحسام المهند
موقع الفكر: ما هو تقويمكم لواقع التعليم في موريتانيا ؟
الخليل النحوي: واقع التعليم جزء من واقع الثقافة التي تحدثنا عنها من قبل، هنالك جوانب كمية نستطيع أن نقول إننا سجلنا فيها تقدما فموريتانيا اليوم من الدول القلائل في المنطقة التي وصلت إلى سقف الهدف المنشود من الخطط الدولية في مجال التربية للجميع، فنحن لدينا نسبة تمدرس في المرحلة الابتدائية تبلغ 100% أو تربو على ذلك. وهذا يعتبر نجاحا كميا لافتا، ولدينا اليوم عدد من الأقطاب الجامعية سواء على مستوى التعليم العمومي أو الخصوصي، ولدينا تطور كمي لا شك فيه، تعترضه عقبة الثانوية العامة التي تعتبر بحق مجزرة لأن الدولة تنفق من مواردها، وأولياء التلاميذ ينفقون من جيوبهم وعرق جبينهم على طلاب وطالبات يصرفون سنين من زهرة شبابهم وطفولتهم في الدراسة، ثم ينهار كل شيء عندما يصلون إلى المرحلة الثانوية ولا يصل إليها في الأصل إلا نسبة ضئيلة جدا، فالذين يصلون إليها لا يكادون يبلغون نسبة الخمس أو الربع من جميع من دخلوا المدارس أصلا، ثم من ضمن أولئك الذين يصلون إلى السنة الأخيرة من التعليم الثانوي هنالك نسبة ضئيلة تحصل على البكالوريا. هذه النسبة كانت تدور حول العشرة، أقل منها أو فوقها بقليل، ووصلت في سنوات نادرة إلى أن حطمت حاجز ال20%، لكنها تبقى مأساة فالـ 80% أو الـ90% المتبقية ماذا نفعل بهم ؟
التعليم الفني والمهني كذلك عندنا ضعيف جدا للغاية، هذا فضلا عن جوانب أخرى جوهرية. وعليه، فإن كل ما نعتبره تطورا إنما هو كمي بالأساس، وهو يخفي قصورا كيفيا كبيرا. النظام التربوي عندنا لا يزود خريجيه بالمهارات الضرورية لخوض الحياة فضلا عن صناعتها، وبهذا تكون المدرسة مجرد طاحونة كبيرة وماكينة تخرج العاطلين بنسبة كبيرة وقليل من خريجيها من يمتلك المهارات الضرورية التي تؤهله للمساهمة في صناعة الحياة وأداء دور ذي بال في إعمار الأرض الذي هو من أهم وظائف الإنسان في هذه الدنيا. وأتذكر أنني اطلعت على تقرير كتبه الحاكم العام لغرب إفريقيا في أربعينيات القرن الماضي عن التعليم في موريتانيا وقال فيه " إن التعليم في موريتانيا يمثل مشكلة حادة " وكان هذا توصيفه آنذاك ولا أظن تلك المشكلة إلا ازدادت حدة. المحضرة عندنا حوصرت وضويقت ولم تبذل الجهد الكافي لتتكيف وتتعايش وتنافس في عصر يموج بالمتغيرات، والمدرسة النظامية لم تُبْلِ بلاء حسنا في صياغة الانسان المزود بالمهارات اللائقة لصناعة الحياة، فالتعليم مأزوم دون شك. وهذه المسألة أصبحت - للأسف - محل إجماع أولي الشأن، فلا أحد يدعي اليوم أن التعليم في بلدنا بخير. وأعتقد أن هنالك أزمة تربية في العالم كله، وبقدر الوعي بحدة الأزمة نستطيع أن نبحث عن المخارج وعن الحلول.
موقع الفكر: ما هي رؤيتكم لتطوير التعليم والنهوض به ؟
الخليل النحوي: هذا شبيه بسؤالكم السابق وهو أمر يحتاج إلى نظر، الدولة نظمت منتديات حول هذا الأمر وأتساءل إن كانت وصلت إلى الإجابة على هذا السؤال. على كل حال، المنتديات والحوار وازدحام العقول من الخطوات الضرورية للوصول إلى رؤية لمعالجة واقع التعليم. وأعتقد شخصيا أن التعليم بحاجة إلى إعادة تأسيس، نحن مكبلون بنظام تربوي ورثناه وقد قُدَّ على غير مقاسنا وأخذناه تقريبا كما قدم لنا مع لمسات بسيطة لا تغير في الجوهر وإن غيرت في الشكل قليلا كإضافة هذه المادة أو تلك. التعليم في موريتانيا بحاجة إلى مسعى للمصالحة بين ما كان نظاما تربويا أثبت نجاعته في عصور خلت – وإن كان بحاجة اليوم إلى تعديل وتكييف – وبين ما تبنيناه وورثناه من أنظمة وأنساق ومناهج ومقاربات تعتبر عصرية وحديثة، لكن التجربة تؤكد أنها لم تعوض ذلك النظام الذي كان قائما ولم تسد حاجتنا اليوم إلى ما يعرف بالتنمية، أقصد التنمية بأبعادها الواسعة التي تعنى بالإنسان باعتباره أداة ووسيلة وباعتباره غاية، وليس مجرد الاعتناء بإشباع رغباته المادية وإنما تنظر إليه في جوهر إنسانيته وتسعى لإشباع حاجاته الروحية والمعنوية والأدبية والحسية، هذا مع التسليم أصلا بأن المدرسة المعاصرة لم تشبع حاجة الإنسان في شقه الحيواني المادي فضلا عن سواه.
التعليم بحاجة إلى مراجعة تقوم على إعادة صياغة مناهجه. شخصيا أعتقد أن إعادة صياغة هذه المناهج ينبغي أن تستهدف تعزيز أركان العملية التربوية، وهي ثلاثة أركان أساسية: ركن المعارف وركن المهارات وركن القيم، فركن المعارف ليس على خير ما يرام ولكنه الركن الوحيد القائم فعلا، أما ركن القيم فيكاد يكون غائبا، فالمدرسة النظامية عندنا تعلم شيئا قليلا ولكنها لا تزكي ولا تربي، ولكي تكون المدرسة مدرسة حقا ينبغي أن تعيد الوصل بين هذين الركنين المترابطين: التعليم والتزكية، والقرآن يقول {يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم}، وقد حدث انفصام كبير بين هذين الركنين اللذين يؤمنان إكساب المعارف وغرس القيم، وقد كاد ركن القيم يغيب. ولا يكفي في هذا الصدد أن نقدم دروسا في الاخلاق والتربية الاسلامية والمدنية بل لابد من وضع منهج لغرس القيم حتى تكتسب وتكون سجايا ولتصبح جبلية أو قريبة من ذلك، لا مجرد نص يحفظه الطالب ولا يدرك معناه أو قيمته ولا يتمثله سلوكا حيا. وأعتقد أيضا أن أية مراجعة للمنظومة التربوية ينبغي أن تركز على الركن الآخر (الثالث) وهو ركن المهارات. المعارف قائمة ولكنها تحتاج إلى تجويد - وحتى إلى تخفيف - لأنه من المؤسف أن يقوم النظام التربوي عندنا على مبدأ حشو أذهان التلاميذ بكمٍّ كبير من المعارف لا حاجة لهم به ولا يفيدهم في الحياة، وغاية الأمر عندهم فيه أن يعيدوا البضاعة الى الاستاذ أو المدرس يوم الامتحان ثم ينبذونها وراءهم ظهريا، وقد انتهت حاجتهم منها بتجاوز الامتحان، نحن بحاجة إلى التركيز على المعلومات النافعة التي نحتاج إليها وأن نستبقي هذه المعلومات ولا نعتبرها محدودة الصلاحية، أجلها أجل الامتحان، فإذا انتهى الامتحان انتهت صلاحيتها. ونحن بحاجة إلى أن نركز على غرس القيم وعلى إكساب الطلاب على مقاعد الدراسة مهارات الحياة الأساسية وأعتقد أن تلك النقطة ضروية في أي إعادة صياغة للمنظومة التربوية.
موقع الفكر: ما تقويمكم للدورة البرلمانية الأخيرة ؟
الخليل النحوي: دعني أتحدث عن الوظيفة البرلمانية عموما، فالتجربة النيابية المتواضعة التي عندي توحي بأن هناك مخاضا فيه بطء لولادة مؤسسة تشريعية تؤدي وظيفتها بالشكل اللائق. ومما يحز في الذهن أنني كثيرا ما رأيت المشاريع التي تقدمها الحكومة تعرض على الغرفة التشريعية تناقش نقاشا عاما كثيرا ما تكون فيه أفكار مفيدة، لكن قلما تخرج من الغرفة التشريعية وقد أضافت إليها إضافة ذات بال، بتغيير كلمة أو زيادة نقطة أو فاصلة أو حذف فاصلة في غير محلها. حز في نفسي أنني رأيت قوانين أعتبر صياغتها معلولة في اللغة العربية تمر مر الكرام وتجاز، وأنني رأيت بعض القوانين التي تحتاج مضامينها إلى إعادة نظر تمرر بسهولة بقاعدة التصويت الكمي الآلي.
وكنت أتساءل في نفسي: هل لنا الحق في المكافآت التي نستلمها والتي هي عرق من يكدحون ويدفعون الضرائب للدولة، إذا كنا لا نستطيع غالبا أن نحسن من نصوص القوانين التي تمر بنا، وهي قوانين سيحاكم على أساسها رجال ونساء. هل نستحق تمثيل الشعب إذا كنا لا نحسن من هذه القوانين، إذا كنا لا نراجعها بما فيه الكفاية، إذا كنا لا نعرف في الغرفة التشريعية ما يعرف في العالم بالقراءة الثانية والقراءة الثالثة لتجويد النص، والحال أنه لم تعد لدينا إلا غرفة واحدة.
حز في نفسي أنني حين سألت عن القراءة الثانية لم أجد أنها حدثت إلا مرة واحدة بطلب الحكومة بدلا من أن تتحمل الغرفة التشريعية مسؤوليتها وتأخذ زمام المبادرة بيدها عند الحاجة. ومع ذلك بدأت الغرفة التشريعية تتخلق... ربما كانت لها فاعلية فيما سبق ، ما كنت عليها شهيدا، لكن في المرحلة التي شهدت، هنالك مخاض وحراك جديد، وأعتقد أن الدورة التي سألتم عنها كانت من أجود الدورات التي شهدتها لأن مجموعات من القوانين طالتها التغييرات من قبل النواب وذلك بالتعاون والحوار بين النواب والحكومة. هذا فضلا عن مبدأ التحقيق البرلماني الذي يعتبر أمرا شبه جديد. وعندما نبحث عن المؤشرات الكمية نلاحظ تشكل كثير من الفرق النيابية المتعددة حول موضوعات معينة يريد النواب من خلالها المساهمة في دراسة ومناصرة القضايا الوطنية. وأعتقد أن الدورة الرباعية (بمقياس الأشهر) الأخيرة، قد شهدت ما يناهز مائة نشاط نيابي. وهذا مؤشر إيجابي من الناحية الكمية.