قد سبق أن كتبت في السنة الماضية مقالا عن الثورة السياسية الأولى في السنغال (نشر المقال في موقع “دكار نيوز” لمن يريد الرجوع إليه) تلك الثورة التي تمت على يد أول نائب زنجي السيد “غللاي امبي جانج بليز” [Blaise] الذي ابلى بلاء حسنا حتى نجح في اقناع الشعب السنغالي على التصويت لصالحه، وقد ساعده في ذلك جل العلماء والبيوتات الدينية في البلد؛ ففاز في انتخابات عام ١٩١٤م على غريمه “كاربو” من كان يمثل السنغاليين في الجمعية الوطنية الفرنسية منذ عام ١٩٠٢م.
وبعد مرور ١١٠م عاما عن الثورة الاولى في الساحة السياسية السنغالية جاء العبقري السياسي، صاحب الكاريزم والشهامة السيد عثمان سونكو ليخيط للشعب السنغالي ثوب الثورة الذي مزقه الرئيس سنغور حيث سجن مع فجر الاستقلال ذاك السنغالي العبقري شيخ تجان سي [Seex tijaan Si]، ثم في الظُّهر مر بحبيبه وصديقه ممد جا [Mamadu Ja] الذي اراد تحقيق تلك الثورة بطلاق فرنسا ثلاث مرات، فاتهمه سنغور بالخيانة العظمى فزجه في السجن سنين عددا؛ وفي عصر حكمه لمح شبح البروفسور شيخ أنت جوب [Seex Anta Jóob] في الظلام وهو يقول لأصحابه: {امكثوا إني آنست نارا} فقضى عليه ساسيا، وضايقه أيضا في الساحة العلمية السنغالية؛ ولكن كما قالَ أبو تمام:
وَإِذا أَرادَ اللهُ نَشرَ فَضِيلَةٍ
طُوِيَت؛ أَتاحَ لَها لِسانَ حَسُودِ
لَولا اشتِعالُ النّارِ فِيما جاوَرَت
ما كانَ يُعرَفُ طِيبُ عَرفِ العُودِ
فغادر سنغور الحكم، وتوفي البروفسور فسمي شيخ أنتَ بالجامع الكبير الذي كان كان سنغور ينتظر من غلامه جوف [Juuf] أن يعطيه اسمه تكريما وتقديرا لخربشاته؛ ولكن “جوف” لم يكتف بذلك وإنما زاد في تشريف البروفسور اعطاءه اسم الشارع الكبير الذي يمر بباب الجامع!
وبعد ان لعب “سنغور” بثوب الثورة، أصابه برد المظاهرات والاحتياجات، فعاش الشعب السنغالي ويلات مايو ١٩٦٨م بظلماته التي بعضها فوق بعض؛ ولكن سنغور مع كل ذلك أبى ألا يكون إلا جبارا في الحُكم، فكان ديمقراطيا ديكتاتوريا حيث أسس مع الرئيس وادْ [Wadd] الحزب الديمقراطي السنغالي [PDS] وذلك لتضليل الناس والمراقبين.. فراقب سنغور الشاب الناشط الواعي “بلوندي جوب” [Blondin Jóob] في الظلام، فاغتيل الناشط الشاب “بلوندي” قبل أن يسمح سنغور لغلامه جوف بأن يكمل صلاة العشاء… فقامَ “جوف” رغم أنوف معارضيهِ، فاكملَ ثم قام وكبّر لصلاة اخرى؛ لكنه مع صغر سنه فقد استسلمَ على يد الفرنسيين، ثم كبر للصبحِ، فتلى سورة الخضوع والخنوع لمدام “إلسابيت”، فسقطت جميع المصانع والمعامل السنعالية؛ لغرورهم وفجور رجالهِ، فعاش الشعب في ضيق وكمد. عمل الشعب مع الرئيس “واد” للتخلص على رئيسهم في انتخابات عام ١٩٨٨م انتقاما منه، ومن حكومته الجائرة، فقام جنود الشعب المكونة من شباب ومناضلين لاسقاط حكومته، ومن اشهر هؤلاء السيد “كلدور سين” [Keledoor Seen] لكن مساعدة اشهر البيوتات الدينية للرئيس المنتهية ولايته، غير الامر، ففازوا ولكن المعارضة بزعامة الرئيس “واد” شمروا، وقاموا له بالمرصاد؛ مما جعل “جوف” وحكومته يعيشون أصعب أيام حياتهم بداية من ١٩٨٩م إلى عام ١٩٩٣م، ولم يجدوا حيلة إلا دعوة المعارضة للعمل والمساندة لأجل البلد، بيد انهم مع كل ذلك لطخوا ثوب الثورة السياسية بدماء الأبرياء والكرماء، فقتل ميترْ بابكر سِي، [Baabakar Séy] واغتيل ثم اضطهد آخرون مثل العالم الميكانيكي الخبير مود سي [Moodi Si] ذاك البطل الذي عذبه جنود “جوف” عذابا شديدا لامور لا يعرف تفاصيلها إلا الراسخون في سياسية السنغالية… ومن هذه الأحداث ايضا تم سجن مئات من السنغاليين ومن أشهرهم أعضاء حركة المسترشدين والمسترشداتِ، وقبل ذلك زج في السجن زعيمهم السيد محمد مصطفى سي [Mustafaa Si] البطل الذي بذل كل طاقاته لاجل ترسيخ الديمقراطية السنغالية؛ وبعد هذه الأحداث المرعبة بدأ نجم جوف يصير إلى الأفول، فشمر الشبان والكهول لانقاذ شعبهم الحائر، فمدوا يد العون إلى رجل سياسي خبيؤ، دخل السياسة منذ عام ١٩٧٤م ولكنه مع جور الحكومات، فقد يئس وغادر البلد إلى أرض الفاسقينَ. وبعد أن ألح عليه المناضلونَ رجع أكبر معارض في تاريخ افريقيا السوداء السيد عبد الله واد، حاملا آمال ملايين من البشر، وطاف البلد تحت ما يسمى بال”كرفان” الأزرق [Caravaane Bleu] الذي قاده غلامه السيد إدريسَ سيك من خانه ذكاؤه وحنكته السياسية. ففاز “سُوبِي” على طويل القصر “جُوف” الذي طلَّقه الشعب السنغالي ثلاث مرات. فجاء ال”التيرناس” [Alternace] ولكن لم يتغير شيء يذكَر، فقد جار الرئيس وَاد على أقربائه مثل إدريس الذي كان يعتبرهُ كابن صلب له، وبعده كان دور الوزير الأول لل”التيرناس” السيد مصطفى نِياس.
فقد كان واد رئيسا عظيما ومشكلته الوحيدة كانت تكمن في حب الرئاسَة والبقاء على العرش أعواما، فظن نفسه العلم المفرد في الساحة السياسية بعد أن امطر على جل رجال الساسة المرتزقين أموالا طائلا، فسجدوا له، فغره ظنونه، فسجن واعتقلَ، حتى جاء عام ٢٠١١م فأراد اللعب بعقول الشعب السنغالي الأبي، بواسطة ذاك القانون الجائر الذي لم إلا جسرا يريد أن يسير عليه ابنه المدلل _ وزير البر والبحر، الملهم كريم واد _ للوصول إلى السلطة. فقتل في الأخير، بعد ان كان يقول: “لا أريد أن السير على جثث السنغاليين للوصول إلى الحكم” هكذا الساسة يغيرهم الحُكم والجاه!
جاءت الانتخابات فطلق الشعب الرئيس “واد” وأنصاره؛ بعد بدأ أن قام ونشأ حركة “يَانامار” [Y’an Mare] الذي لعب دورا بالغ الأهمية في التوعية, فبعث في الشعب روح الثورة والنضال! احتفل السنغالون بوصول الرئيس “ماكي سال” [Maki Sall] واستقبلوه بحفاوة كبيرة؛ لكن مع الأسف لم يلبث إلا أشهرا حتى خلط بين الحابل والنابل، فوقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه “واد” وهو حب البقاء على الرئاسة، ومحاربة كل من له فكرة الوصول إلى الحكم، فسجن واعتقل، فصار أحبابه وأتباعه شعب الرئيس المختار، ومعارضوهُ هم أهل غزة؛ فلتف حوله السارقون والمرتزقون الذين كانوا بالأمس القريب ألد أعدائه. فمع كل انجازاته الضخمة، لم ينجح الرئيس “سال” في تحقيق الثورة السياسية التي كان الشعب ينتظره منه ومن اسلافهِ منذ فجر الاستقلال…
وقد صادف ولاية الرئيس “سال” الثانية ظهور أكبر معارض في السنغال الحديث، وهو السيد عثمان سونكو بخطاباته النارية تجاه الحكومة السنغالية، فبعث في جسد الشعب روح المقاومة والنضال لأجل التغيير، ومحاربة ظلم الساسة وجورهم. فعاش الرئيس “سال” أياما صعبة بعد عام ٢٠١٩م، ومما زاد في الطين بلة تلك المشكلات الاقتصادية التي جاءت بها جائحة كرونَا. فشاع صية رئيس الوزراء السنغالي الحالي السيد عثمان سونكو بين السوقة، فأحبوه رغم كل التهم التي الصقه معاضوه إليه؛ ومما دفع انتشار روح النضال والمقاومة لاسقاط حكومة “سال” قيام تحالف “يِوِّ أسكنوِ” الذي كان يمثل كتلة قوية لمواجهة سياسة “سال” ومعارضة سياسته؛ فقاموا له بالمرصاد في الانتخابات البرلمانية، وبعد مرور الانتخابات علم جل المراقبين بأن نهاية حكومة “سال” قد اقتربت! وكان زعيم هذا التحالف السيد سونكو من يرجع إليه الفضل في هذا التغيير الحقيقي الذي كان الشعب السنغالي يحلمه، وينتظره منذ قرن.
فبعد ١١٠ عاما من ثورة السيد “بليز جانج” جاء السيد سونكو ليحقق تلك الثورة السياسية الحقيقية؛ ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو مالفرق بين الثورة الأولى عام ١٩١٤م وثورة عام ٢٠٢٤م؟ فيمكن القول بأم الأولى يمكن اعتبارها كَاللبنات الأولى لهذه الثروة؛ لأن من أبرز تلك النقاط التي جعل الزعماء والعلماء والشعل يقومون بجانب السيد “بليز” هو دعوته إلى المساواة بين السنغاليين سكان المديريات الأربعة وبين الفرنسيينَ في الحقوق والواحبات. ثانيا؛ فالخلاسيون كانوا يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار في البلد، ومن يقرأ رواية “نِينِي” يعرف حقيقة ما كان يعيشه هؤلاء. وبفضل رجال عظماء في البلد انتصر السنغال على أبناء فرنسا رغما عنهم؛
وأما هذه الثروة السياسية المباركة _ بإذن الله_ يمكن اعتباره اللمسات الأخيرة لثروة ١٩١٤م لأن المعارضة اليوم قام، وناضل، وقاوم لهدم ذاك ال”سيستيم” الذي زرعه الفرنسيون في الحكم بمساعدة سينغور وتبعه في ذلك حلفاؤه؛ فمن سيئات ذاك ال”سيستيم” [Systeme] القديم أنه “جعل أهله شيعا” فيصيد من بحار رجال الأموال، ويأكل منها الذين تربعوا على العرش، ثم يوزعون الفضلات إلى بعض رجال الدين، الذين يمثلون أسرة آبائهم أكثر مما يمثلون الدين الإسلامي الحنيف!
كان الحكام يقومون مقام شعب الله المختار، وفلسفتهم في الحياة هي “معنا أو ضدنَا”! وقد استشهد خلال الثورتين رجال عظماء، واعتقل أناس كرماء، كما اغتيل بذلك نفوس أبرياء؛ فمن الرجال الذين بذلوا النفس والنفيس لأجل هذا التغيير من عام ١٩١٤م إلى عام ١٩٨٠م؛ “مام شيخ أنتَ امباكي” [Maam Seex Anta] الذي كان يساند النائب “غلاندو جوف” فاعتقله “بليز جانج” بعد أن خان الشعب، وبدأ يمزق ثوب الثورة تمزيقا؛ ومنهم الشيخ أحمد تجان سي [Seex Ahmad Tijaan Si] المكتوم من قام لمعارضة سياسة سنغور ورجاله قبل الاستقلال وبعده، فاعتقلوه وسجنوه؛ ومنهم الرئيس “ممد جا” [Mamadu Ja] الذي اعتقله سنغور هو وأنصاره بعد أن فهموا خطة سنغو وفرنسا، ثم قاموا لوضع البلد على سكة التقدم والنهضة، فزجهم الملك سنغور في سجن “كيدغو” [Keedugu] فماتوا مع روح المقاومة والمناضلة لأجل هذا التغيير! ومنهم البروفسور شيخ انت جوب [Seex Anta] الذي زجه في غياهب السجن الرئيس الأول للسنغال سنغور، وذلك بعد أن وضع البروفسور لبنات راسخة لأجل هذا التغيير وهي الكتابة والتأليف ومواجهة الفكر بالفكر؛ فيمكن اعتباره المهندس للثورة السياسية السنغالية الحديثة…. ومنهم الشاب الوطني “بلوندي جوب” وامثالهم كثر.
وممن ضحوا بحياتهم لأجل هذا التغيير خلال الثورتين من عام ١٩٨٠م إلى عام ٢٠١٢م السيد عبد الله واد [Wadd] الذي أظهر خريطة طريقه في كتابه “مستقبل إفريقيا” فكان اسدا قبل وصوله إلى الحكم، وهناك رجال بواسل حاربوا بجنبه منهم السيد محمد مصطفى سي [Mustafaa Si]، والسيد لاندينع سافانِ [Laanding Savane] وغيرهما. ويأبى العقل أن ننسى السيد ميتر بابكر سي [Babakar Sey] وكل من ضحى بحياته لأجل السنغال في السر والعلن… ونرفع القبعة لكل من اعتقله الرئيس جوف بعد انتخابات عام ١٩٨٨م ومن أبرز هؤلاء أعضاء حركة المسترشدين [Mouvement Mûstarchid)] تلك الحركة الإسلامية الصوفية التي لعبت دورا لا بأس به في ترسيخ ديمقراطية السنغال، ومثلهم حركة “يانامار” التي كانت تبعث روح ابمقاومة في جسد الشعب السنغالي الحائر. ومن الذين بذلوا النفس والنفيس لأجل هذا التغيير بعد عام ٢٠١٢م المعارضة الكلاسكسية، تحالف [Yewwi Askan wi] وبالأخص حزب [Pur] و[Taxawu] وحزب “فاستيف” [Pastef] الذي ذاق أتباعه ومحبيه كل الويلات لنجاح هذا التغيير… ويكفيهم فخرا أن مرشدهم ورئيسهم زعيم المعارضة الحققي، السيد عثمان سونكو هو الأب الروحي للثورة السياسية الثانية في السنغال، وذلك بواسطة مواقفه البطولية، مجهوداته الجبارة التي رسمها تاريخ السنغال، وبالأخص التاريخ السنغالي السنغالي، فلولا حنكته الساسية لضاعت المجهودات مثلما ضاعت عام ١٩٩٣م….
فاعلم أيها القارئ الجميل بإنما حققته المعارضة _ الثورة السياسية السنغالية الثانية _ بزعامة الرئيس سونكو ثمرة نضال طويل، مات بسببه رجال عظماء؛ كما خان رجال مبادئ أحباء أوفياء لثمن بخس دراهم! فعلينا اليوم أن نصبر ونعمل لترسيخ دعائم هذا التغيير؛ ونضع نصب أعيننا قول الله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} لأن الحكماء يقولون: “الوصول إلى الهدف صعب، وأصعب منه العمل لرسم بصمة واضحة وخالدة!”، فلنتعب ايها المواطنون الأحرار لأجل الأجيال القادمة، ونعيش فلسفة تلك الآية الكريمة: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} فيا أيها الوطن المحبوب، كن ملجأ، وحصنا أمينا لكل أولادك المخلصين!