مرة أخرى أجدني مضطرا للاستعانة بقصة تروى عن الإمام أبي حنيفة وتلميذه المتميز أبي يوسف، ومرة أخرى أجدني ملزما أن أنبه في بداية هذا المقال إلى أن الفتوى التي سأقدمها هنا ليست فتوى دينية، فلذلك النوع من الفتاوى أهله ورجالاته، ونحن لدينا الكثير من العلماء الذين يحق لهم ـ دون غيرهم ـ أن يقدموا فتاوى شرعية في مثل هذه القضايا الشائكة.
إن الحديث هنا هو مجرد حديث إعلامي وسياسي، لا أكثر ولا أقل، ولا علاقة له إطلاقا بالجانب الشرعي، حتى وإن من مُهد لها بقصة من تراثنا الفقهي.
قصة من تراثنا الفقهي
تقول القصة إن أبا يوسف القاضي وهو من أذكى تلاميذ الإمام أبي حنيفة أصيب بمرض شديد ألزمه الفراش، فزاره أبو حنيفة رفقة بعض تلاميذه، وفي طريق العودة قال الإمام لتلاميذه إن أبا يوسف سيكون له شأن عظيم إن قدِّر له أن ينجو من المرض الخطير الذي ألم به، وقال لهم إني كنتُ أرجوه للناس من بعدي.
شُفي أبو يوسف من مرضه، وأخبره بعض أصدقائه بما قاله عنه الإمام، فما كان منه إلا أن قرر أن يفتتح حلقة خاصة به. فوجئ أبو حنيفة بالحلقة الجديدة في المسجد، ولما سأل تلاميذه عنها وعن شيخها، أخبروه أن أبا يوسف قد شفي من مرضه، وأنه قرر أن يفتتح حلقة خاصة به.
ولكي ينبه الإمام تلميذه الذكي على أنه قد استعجل الأمر، وأن وقت التدريس لم يحن بعد، أبرق إليه بسؤال لغز مع أحد التلاميذ جاء فيه أن رجلا أعطى قماشا لخياط ليخيط له ثوبا، ولكن الخياط أنكر وجود القماش، وبعد تفتيش وتهديد اعترف الخياط بوجود الثوب، وكان السؤال هو : هل يعطي صاحب القماش للخياط أجرة خياطة الثوب أم لا؟
ولقد أوصى الإمام تلميذه أن يقول لأبي يوسف أنه قد أخطأ مهما كانت إجابته، فإن قال إن الخياط يستحق أجرا قال له التلميذ الرسول: ومن أين أبحت لخياط سارق الأجرة؟ وإن قال إن الخياط لا يستحق أجرا، قال له التلميذ الرسول: ومن أعطاك الحق في أن تحرم خياطا من أجر معلوم، كان قد حُدد له سلفا إن هو أكمل خياطة الثوب؟
نفذ التلميذ وصية الإمام، وعلم أبو يوسف أن الإمام قد أراد أن ينبهه على أن وقت التدريس لم يحن بعد، فلم يكن منه إلا أن ترك حلقته، وذهب إلى الإمام وطلب منه ـ وهو جاثيا على ركبتيه ـ أن يفتيه حول أجرة الخياط، وأن يجيبه على السؤال اللغز.
وما علاقة هذا بتبرع القبائل لأهلنا في غزة؟
لا بأس باستخدام نفس الأسلوب في القصة في مسألة تبرعات القبائل لأهلنا في غزة، فإن قال لكم قائلٌ ـ وما أكثر من يقول بذلك ـ إن تنافس القبائل في جمع التبرعات لأهلنا في غزة هو عمل لا يجوز وفق منطق وقوانين الدولة الحديثة، وأن هذا النوع من الأنشطة يجب أن يترك بشكل كامل للدولة ولهيئات المجتمع المدني، من أحزاب سياسية، ونقابات، ومنظمات مجتمع مدني.. ويتأكد الأمر بالنسبة لبلد مثل بلدنا ما تزال فيه القبائل تُنافس الدولة، وتنتزع منها الكثير من صلاحياتها. فإن قال لكم قائل بذلك ـ وما أكثر من يقول به ـ فقولوا له يا هذا : كيف تريدنا أن نبقى مكتوفي الأيادي دون فعل أي شيء، حتى ولو كان مجرد تبرع بقليل من المال، ونحن نشاهد لحظة بلحظة تفاصيل أبشع وأفظع وأشنع جريمة إبادة ترتكب في عصرنا الحديث ضد إخوة لنا في الدين والدم والإنسانية، ويحدث ذلك في ظل تخاذل عربي وإسلامي وعالمي غير مسبوق.
يا هذا كيف تريدنا أن نواصل تفرجنا على أبشع جريمة إبادة ضد إخوة لنا، دون أن نتبرع بقليل من المال كتعبير عن أضعف أشكال التضامن والمواساة؟ ألم يكن أولى بكَ أن تتبرع لأخوتك بدلا من شن الهجوم علينا، فأنت بفعلك القبيح هذا، تكون ممن لا يعين الضحايا، ولا يترك الآخرين يعينوهم، إنك بالفعل ممن يمنعون الماعون؟
وإن قال لكم قائل ـ وما أكثر من يقول بذلك ـ إن ما نشاهده اليوم من تنافس بين القبائل في جمع التبرعات لأهلنا في غزة هو تنافس شريف ونبيل، يستحق منا جميعا أن نشجعه وأن نثمنه حتى يتواصل، وحتى تجمع قبائلنا أكثر ما يمكن أن تجمع من مال، وهي مهما جمعت من مال، فإن ذلك سيبقى أقل مما كان يجب أن نتبرع به إلى أهلنا في غزة.
فإن قال لكم قائل بذلك ـ وما أكثر من يقول به ـ فقولوا له يا هذا كيف تشجع تنافسا قبليا في العام 2024، حتى وإن تلبس ذلك التنافس بلبوس شريف ونبيل؟ ألا يشكل هذا التنافس المحموم تحديا ـ إن لم أقل تهديدا ـ لكيان الدولة وهيبتها؟ ألن يزيد القبائل تغولا في المستقبل؟ ألم يُصْدر وزير الداخلية واللامركزية في يوم الاثنين الموافق 24 يناير 2020 تعميما إلى الولاة بمنع التراخيص لأي نشاط قبلي على أراضي الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟ ألا تشكل الأنشطة القبلية التي نشاهدها اليوم، والتي يحضرها ويشارك فيها مسؤولون كبار في الدولة انتهاكا صريحا لذلك التعميم؟ ألا يزيد من خطورة ذلك الانتهاك أن التبرعات تسلم لجهة خارجية، حتى وإن كانت أكثر من شقيقة، مما يعطي لأنشطة القبيلة ـ ولأول مرة ـ بعدا خارجيا، وذلك بعد أن كانت أنشطتها منحصرة على الداخل الموريتاني؟
عن تناقضات بعض المهتمين بالشأن العام
عودنا الكثيرون من المهتمين بالشأن العام في هذه البلاد أن يناقشوا ما يطفوا على السطح من ظواهر دون الغوص في عمقه، وعودونا كذلك أن يناقشوا تلك الظواهر ويتخذون منها مواقف بعيدة كل البعد من الموضوعية، وتتأثر بشكل كبير بأمزجتهم الشخصية، ولذا فليس من الغريب أن تُصادف أحدهم يجمع بين نقد القبائل لجمعها للتبرعات لأهلنا في غزة، ودعوتها في نفس الوقت لجمع التبرعات لصالح بعض فئات مجتمعنا الهشة !!
إن ذلك يعني أن جمع القبيلة للتبرعات لغزة مرفوض ويهدد كيان الدولة، وجمعها للتبرعات للفئات الهشة في البلد مطلوب ويستحق التثمين، وفي هذا تناقض واضح، فإما أن نكون مع حضور القبيلة في المجال العام في كل الأحوال، أو ضده في كل الأحوال.
بل أكثر من ذلك، فإن بعض الذين ينتقدون جمع القبائل للتبرعات لأهلنا في غزة، كانوا من قبل انخراط القبائل في جمع التبرعات ينتقدون هيئات مدنية ( الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني والمنتدى الإسلامي الموريتاني) لقيامهما بذلك الدور، وكانوا ـ وما زالوا ـ يشككون في وصول تلك التبرعات إلى من جُمعت له، ومن بين هؤلاء من لا يكتفي فقط بالتهجم والتشكيك في تلك الهيئات، بل يعلن صراحة أنه أصلا ضد جمع التبرعات لأهلنا في غزة، وسواء جُمعت من طرف قبيلة أو هيئة مدنية، وحتى وإن سُلمت علنا لسفير فلسطين أو لممثل حماس في نواكشوط.
بالنسبة لبعض هؤلاء فإن المسألة لا تتعلق فقط بما تجمعه القبائل من تبرعات، بل تتعلق أصلا برفض جمع التبرعات لأهلنا في غزة، مهما كانت الأساليب والوسائل المتبعة في ذلك، ولأن بعض هؤلاء لا يتجرأ على انتقاد جمع التبرعات بشكل مباشر، فأصبح يتعلل في نقده بدخول القبائل على الخط، وكان قبل ذلك يبرر نقده بأن من يجمع تلك التبرعات هيئات محسوبة على تيار سياسي، قد تستخدم ذلك لتحقيق مآرب سياسية ضيقة، ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه هنا : لماذا لا يدعو أولئك التيارات السياسية والأيدولوجيات الأخرى إلى تأسيس هيئات مدنية خاصة بها لجمع التبرعات لأهلنا في غزة؟
وفي المقابل، واتباعا لأسلوب ما جاء في قصة الإمام وتلميذه، فإنه يمكن القول أيضا إن بعض المؤيدين لتنافس القبائل في جمع التبرعات لأهلنا في غزة عهدناهم، وإلى وقت قريب، ينتقدون كل ظهور للقبيلة في أي نشاط مهما كانت طبيعته، فعلى هؤلاء نطرح السؤال : فبأي منطق كنتم تنتقدون في الأمس القريب ـ وبشدة ـ تدخل القبائل في المجال العام، واليوم ها أنتم تشجعون تلك القبائل على تدخلاتها في مجالات عامة أخرى، وهي في هذه المرة قد تزيد خطورة لكونها ذات بعدٍ خارجي؟
إن غابت الدولة وهيئات المجتمع المدني فستظهر القبيلة
من المعلوم بداهة أنه كلما غابت الدولة وهيئات المجتمع المدني، فإن القبيلة ستظهر، وكلما زاد غياب الدولة وهيئات المجتمع المدني زاد حجم ظهور القبيلة...هذه حقيقة واضحة وبينة، ولذا فلا يمكن أن نحدَّ من ظهور القبيلة في المجال العام، إلا إذا عملنا على خلق هيئات حزبية ومدنية قوية، وهو ما لم يحدث حتى الآن، وذلك على الرغم من مرور أكثر من ستة عقود على ميلاد الدولة الموريتانية.
لم تتأسس حتى الآن، هيئات مدنية ذات مصداقية كبيرة، قادرة على أن تجمع عُشر ما تجمعه كل قبيلة من تبرعات لصالح أهلنا في غزة، وما تزال النقابات والجمعيات عاجزة عن القيام بدور القبيلة في هذا المجال، فعلى مستوى الاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين مثلا، وهو الاتحاد الذي كان يجب أن يجمع تحت اسمه أكبر تبرع لصالح أهلنا في غزة، فسنجد أن منتسبيه أكثر تحمسا للتبرع باسم قبائلهم، بدلا من التبرع باسم اتحادهم، بل أكثر من ذلك، فإن بعض كبار رجال أعمالنا قد سارع للتبرع لضحايا فيضان أو إعصار كاترينا، ولم يتبرع حتى الآن لضحايا الإبادة التي يرتكبها العدو ضد أهلنا في فلسطين، وذلك مع العلم أن عدد ضحايا الإعصار لم يصل إلى 2000 قتيل، في حين أن ضحايا الإبادة تجاوزوا حاجز المائة ألف ما بين شهيد ومصاب، خلال الأشهر الستة الماضية.
إن المجتمع المدني في بلادنا ما زال هشا، ولذا فستبقى القبيلة حاضرة وبقوة، ويمكنني أن أجزم، وبصفتي ناشطا في المجتمع المدني، أني لو قررتُ اليوم أن أطلق حملة لجمع التبرعات لأهلنا في غزة باسم منظمة مجتمع مدني، ولتكن حملة "معا للحد من حوادث السير"، والتي تنشط منذ سنوات في مجال السلامة الطرقية، فإني لن أتمكن من جمع مائة ألف أوقية قديمة، وبالمناسبة فإن هذه الحملة التي تنشط منذ سنوات في مجال التوعية ضد حوادث السير ما تزال عاجزة حتى اليوم عن امتلاك مقر متواضع في حي شعبي. وفي المقابل، فإني عندما استنفر القبيلة وأقرر أن أجمع التبرعات باسمها، فإن الحصيلة ستكون كبيرة جدا.
ويبقى السؤال : ما الحل؟
لا يمكن أن نحدَّ من حضور القبيلة في المجال العام إلا إذا تضافرت جهود الجميع، وأن يكون ذلك من خلال:
1 ـ تفعيل التعميم الصادر بمنع التراخيص للتجمعات القلبية، واتخاذ الحكومة قرارات صارمة تمنع مشاركة الموظفين في الاجتماعات القبلية ذات الصبغة السياسية، وتعاقب كل من يحضر من الموظفين لتلك الاجتماعات؛
2 ـ اتخاذ قرارات صارمة من طرف حزب الإنصاف وبقية الأحزاب السياسية بمقاطعة المبادرات القبلية، ومنع قيادات الأحزاب من الظهور في أي مبادرة قبلية ذات صبغة سياسية؛
3 ـ توقف النخب عن إقحام القبيلة في المجال العام لأغراض نفعية خاصة، فأنت قد تجد السياسي المعارض يستنفر قبيلته في الحملات الانتخابية، أما السياسي الموالي فحدث ولا حرج.
على المستوى الشخصي، فقد طلبتُ من المترشحين للنيابيات في دائرة نواكشوط الشمالية في الانتخابات الماضية أن نوقع ميثاقا شرفيا من خمسة بنود يتضمن من بين أمور أخرى، مقاطعة الاجتماعات والمهرجانات التي يكون فيها الحضور على أساس قبلي، والتركيز في الحملة على البرامج، والأفكار، والحوارات، والمناظرات التي من شأنها أن تثقف الناخب، وترسخ الممارسة الديمقراطية في البلد. لم أجد من المنافسين من يقبل بتوقيع هذا الميثاق، ولم أجد لهم برامج انتخابية مكتوبة، وقد التزمتُ على المستوى الشخصي بتنفيذ بنود هذا الميثاق، حتى ولو لم يوقعه معي أي منافس، والنتيجة كانت معروفة، فقد خرجتُ من المنافسة مبكرا، متسببا ـ حسب البعض ـ في فضيحة كبيرة للقبيلة، والتي كان عليَّ حسب أولئك أن استنفرها قبل الانتخابات حتى تجلب من الأموال والأصوات ما يجنبها الفضيحة التي أوقعتها فيها!!
4 ـ أن تعمل الدولة على دعم الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الجادة، والتي يمكنها أن تشكل بديلا للقبيلة، فبدون مجتمع مدني قوي ـ وكما قلتُ سابقا ـ فإن حضور القبيلة سيظل في تنامٍ واتساع، وبما يهدد كيان الدولة.
والآن، فلنعد إلى سؤال أبي حنيفة
إن الجواب الصحيح على السؤال اللغز هو أن صاحب الثوب يعطي الأجرة للخياط، إن كان الخياط قد فصَّل الثوب على مقاس صاحب الثوب، مما يعني أنه لم يفكر في سرقة الثوب إلا بعد أن أكمل خياطته. أما إذا كان الثوب قد فُصَل على مقاس الخياط فلا أجرة للخياط الذي كان قد نوى سرقة الثوب من قبل البدء في خياطته.
إنه لا يمكننا أن نقف ضد جمع القبائل للتبرعات لأهلنا في غزة، وذلك في ظل غياب أي جهة أخرى قادرة على جمع تلك التبرعات، وبنفس المبالغ. وفي المقابل، فإنه لا يمكننا إلا أن نشعر بالمزيد من القلق، ونحن نشاهد تنامي حضور القبائل، وتوسع مجالات تدخلها في ملفات كان يجب أن تبقى حكرا للدولة وللمجتمع المدني.